روسيا بوتين وإعادة صياغة النظام القطبي من جديد
د. إبراهيم الخطيب
تُظهر الأحداث الأخيرة في أوكرانيا تسارع الدور الروسي في العالم، هذا الدور جاء على حساب تراجع أميركا ودورها كدولة محورية أو كقطب سياسي ضمن واقع أحادي القطبية يعيشه العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ذلك الانهيار الذي نشأ عنه انفصال عدة دول في شرق أوروبا وإعلان استقلالها، وكذلك نتج عنه تركيز روسيا على وضعها الداخلي وأزماتها الاقتصادية والسياسية، ليتجلى الضعف الروسي في فترة بوريس يلتسين مع انحصار الدور الروسي في العالم.
يمكن قراءة تصاعد الدور الروسي في العالم من خلال الأدوار الكثيرة التي باتت تقوم بها روسيا في العالم وإن كان تركيزها على أوروبا والشرق الأوسط بشكل أساسي، ففيما يعرّف الباحثون النظام الأحادي القطبية بنظام تملك فيه دولة أغلب النفوذ الثقافي والاقتصادي والعسكري وما ينسحب عليه من حضور سياسي واسع عالميا فإن هذا النظام بمقوماته تلك بات يتضعضع مع وجود قوى تحاول إعادة موضعة نفسها من جديد في النظام العالمي الذي نعيشه اليوم.
وإذا كان الادعاء أن النظام أحادي القطبية يمكن أن يوفر حالة من السلام لانعدام التنافس بين الدول العظمى في ظل حالة استقرار الهيمنة بفعل وجود قطب واحد “يسلّم” الجميع بهيمنته فإنه في المقابل يترسخ عند البعض أن مفهوم توازن القوى بين الدول الذي يرى منظروه أنه هو الذي يجلب الاستقرار في سبيل المحافظة على التوازن بين الدول.
في ظل هذا النقاش النظري حول دور أحادية القطبية وثنائية القطبية وتعدد الأقطاب على السلم والأمن الدوليين فإنه يبدو أن الواقع السياسي العالمي يظهر أن الهيمنة الأميركية وأحادية القطبية التي كانت تمتلكها أميركا باتت تتخلخل- أو على الأقل في جانب النفود السياسي والحضور العسكري- لصالح روسيا، وإلى حد كبير في الجانب الاقتصادي لصالح الصين.
وتكمن الإشكالية في أن مرحلة التحول القطبي التي نعيشها-إن صح تسميتها كذلك- هي مرحلة جدا حساسة تحاول من خلالها الدولة أحادية القطب (في هذه الحالة أميركا) عدم الدخول في حروب أخرى، وذلك لأسباب متعلقة بالوضع الاقتصادي، وعدم الاستعداد لدفع تضحيات من جنودها، وطبيعة النظام هناك الذي يجعل الدخول في الحروب إشكالا لمن يرأس البيت الأبيض ويقلل شعبيته السياسية.
كل هذا الواقع يجعل المكانة الدولية المرتبطة والهيمنة الأميركية وتفردها بأحادية القطبية محط نظر وتراجع، فيما يبدو أنها -أي أميركا- لا تريد “التضحية” في سبيل حفظ مكانتها كقطب أوحد في العالم، أو على الأقل لا ترى حتى الآن أن نفوذها ينحسر أو ببساطة مستعدة للتخلي عن بعض النفوذ على حساب الدخول في حرب يمكن أن تكون نتائجها أكثر وخامة.
في مقابل ذلك، فإن الروس يحاولون إعادة حضورهم السياسي ومكانتهم الدولية وإرثهم السوفياتي من جديد في إعادة بناء هيمنتهم ودورهم كقطب، وهذا الدور الروسي الذي يقوده بوتين كان ضمن سياسة ذكية ركزت على استغلال الضعف الأميركي وعلى سياسة “التدخل الذكي” الذي يستغل نقاط الضعف عن الطرف الأخير من دون السعي لمواجهة مباشرة معه، ولكن بسحب البساط من تحته بنفوذ يتزايد له في أماكن مختلفة حول العالم.
وهذا التحدي نرى جوانبه في التدخل الروسي في سوريا، والتدخل في جورجيا قبل سنوات، والتدخل في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، وأخيرا التهديدات والحشود العسكرية ومس استقلال أوكرانيا في الأيام الأخيرة.
وبدا جليا أن روسيا في سعيها لإعادة موضعة نفسها كقطب جديد تبدو مصحوبة بقوة عسكرية وحضور عسكري وازن، مع تصاعد قوتها في المجال الاقتصادي -خصوصا مجال الطاقة- وسياستها التفاوضية التي تناور من خلالها بشكل قوي وواضح، في محاولة لفرض شروطها وهيمنتها ضمن سياسة لي أذرع وتصوير الآخرين بغير المتعاونين، وأخيرا “رؤية” و”تصور” نفسها كقطب ودولة عظمى وعدم رضاها بنتائج الحرب الباردة، ليكون تصريح بوتين الأخير -الذي قال فيه إنه كان من الخطأ التسليم باستقلال دول أوروبا الشرقية (الاتحاد السوفياتي سابقا)- إشارة إلى ذلك، في رسالة ضمنية إلى مساعي روسيا العودة لثقلها الذي كان في حقبة الاتحاد السوفياتي.
ومع كل هذا الواقع والمساعي الروسية لأخذ دور قطبي جديد في المنظومة الدولية فإنه تكمن عدة تحديات أمام روسيا في مسعاها هذا، وهي كالتالي:
– تمكنها من فرض هيمنتها الثقافية والعسكرية في أنحاء تتجاوز أوروبا والمتوسط.
– استدامة هذا النهج الروسي ليكون نهج دولة وليس مسار رئيس هو بوتين.
– عدم استمرار الولايات المتحدة والأوروبيين في التساهل مع الروس.
– تبدل داخلي في روسيا، وتغير الدكتاتورية في روسيا والذي يجعل سقوطها وتبدلها بابا لتراجع الطموحات الروسية.
– قدرة روسيا على تطوير اقتصادها أكثر لتتجاوز قوتها الجانب العسكري وحضورها السياسي إلى جوانب أخرى.
أخيرا، في ظل هذا الواقع العالمي الذي نعيشه من تراجع دور الولايات المتحدة وحلفائها وعدم وجود إرادة سياسية عند القيادات الأميركية بأخذ زمام المبادرة لمجابهة الدور الروسي فإن الروس سيستمرون في سياستهم الذاتية بالحصول على مكاسب أكثر في المنطقة.
وإن افترضنا أن هدفهم ليس الوصول إلى حالة قطبية جديدة بمفهومها الكلاسيكي فهو مسعى لبسط نفوذ أكثر في العالم وكسب إضافي على حساب الأميركيين والأوروبيين الذين يمرون بحالة من انحسار الدور في السنوات الأخيرة، واختبار حدود المطامح الروسية ستظهره الأحداث القادمة وحدود التضحيات الروسية التي يمكن أن تُقدم.
لكن يجب ألا ننسى أن سياسة حافة الهاوية التي يتبعها الروس يمكن أن تجر العالم إلى حرب، وهنا يكمن الاختبار الحقيقي لإرادة روسيا الحقيقية وطموحها إلى جانب سياستها الذكية أو انكفائها وتراجعها واقتناعها بأنها ما زالت بعيدة عن احتلال موقع القطب الثاني من جديد.
في المقابل، ستُظهر طبيعة تعامل أميركا مع الملف الأوكراني حدود رضوخها للروس وتقبّل تراجع دورها كقوة قطبية وحيدة في المنطقة أو تقبّلها تقاسما محدودا للهيمنة في العالم.
وفي ظل كل هذا يجب ألا ننسى أن هناك دولة في المشرق هي الأخرى تتوسع بخطوات ناعمة في العالم وهي الصين، وإن كان ضجيج خطواتها العسكرية محدودا فإن وقع هيمنتها الاقتصادية يتعاظم، لتشكل تحديا للروس والأميركيين هي الأخرى.