النقب المعركة الأخيرة، لماذا؟ (3)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
انطلق يوم الاثنين الماضي في الكنيست اللوبي اليهودي من أجل حماية الاستيطان في الجليل والنقب، ويقود هذا اللوبي الجامع لليمين الحاكم والمُعارض النائب عن حزب يمينا الحاكم عامي-حاي شيكلي، الذي اشتكى في افتتاح هذا اللوبي من تراجع الاستيطان في الجليل والنقب واعتبر الاستيطان مهمة الأجيال القادمة وحقيقة الوجود الإسرائيلي.
لم يكن معنى الاستيطان الاحلالي غائبًا لحظة عن الفكر الصهيوني على تنوع خلفياته الفكرية والأيديولوجية، ولكن ما نلاحظه أنّ ارتفاع أصوات الاستيطان توافقت وسلسة من الحداث الجارية محليا وإقليميا تجعل مسألة الاستيطان مسألة استراتيجية، رغم أنّها لم تكن غير ذلك منذ قيام إسرائيل بالمعنى الوجودي، عِلمًا أن إسرائيل اليوم في أكثر مراحلها راحة وقبولا بين الأنظمة العربية ووصل التعاون مع الدول العربية مراحل غير متوقعة من متانة التعاون، ولذلك يصبح موضوع الاستيطان محل نظر مرتبط كما سيتضح لاحقا بوجود إسرائيل والحفاظ على مستقبلها كجزء من منطقة الشرق الأوسط بغالبيتها السنية المطلقة.
في السياق ذاته، سعى عدد من المستوطنين من الصهيونية الدينية التابعين لحزب يمينا الحاكم وأطراف صهيونية دينية معارضة لتأسيس بؤرة استيطانية في قرية الزيادنة قرب مدينة رهط في النقب، وفشلوا في ذلك بفضل موقف الأهالي غير المساوم والمداهن.
كافة المراقبين السياسيين للشأن الإسرائيلي يجمعون على أن إسرائيل تعيش سنوات شعبويتها، فاليمين بشقيه الديني والمحافظ بله والعلماني تتصاعد مواقفهم المتطرفة في الشأن السياسي والأمني المتعلق بالفلسطينيين، كل الفلسطينيين، بما في ذلك الداخل الفلسطيني ومنه أساسا النقب وساكنته وهؤلاء الشعبويون يشنون حملة شعواء على الوجود الفلسطيني في القدس والشيخ جراح والجليل والمثلث والنقب، وما باتت هذه المجموعات الشعبوية تخبئ أفعالها وحركتها المناوئة والمحرضة على الوجود الفلسطيني، وتعتبر هذه الدوائر القدس والنقب آخر القلاع الواجب تهويدها باعتبارهما “ثروة” استراتيجية سياسية-جغرافية وقيمية ذات علاقة بالتاريخ وموروثاته. وهذا اللوبي الذي انعقد مُحذّرًا من تداعيات تراجع الاستيطان في المنطقتين المذكورتين تشكل بياناته جسرا لتعميق الشعبوية السياسية والأمنية واستحالتها نمط “حياة” في المجتمع والشأن الإسرائيلي، سواء بسبب التخويف والتهويل والتهويش أو بسبب أدلجة القضية وإحالتها من دائرة السياسة حيث فن الممكن إلى الأيديولوجيا حيث الثوابت العقدية وحرمة التراجع وقبول الحلول والتسويات، إذ العلاقة تصبح مؤسسة على قاعدة: أسود-أبيض. لذلك ثمة تَحَسُب من تطورات الأمور لتفضي الى جرائم مفتوحة ترتكب تحت شماعة حماية الاستيطان والوطن وما ظاهرة كتيبة الحاريديم العسكرية “نيتسح يهودا” التي تعيث فسادا في الضفة الغربية عنا ببعيد.
تزداد أهمية الأراضي في النقب بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية ليس من المنطلقات الصهيونية التي تنادي بها الحكومات المتعاقبة منذ عام 1948، وليس من منطلقات التهويد فحسب، فهذه مسلمات عمدت المؤسسة الإسرائيلية إلى تحقيقها منذ أن قامت هذه الدولة وحتى هذه اللحظات، بل هناك ثمة أسباب مرتبطة بالحدث السياسي الجاري في المنطقة منذ اتفاقية كامب ديفيد الأولى عام 1977، حيث بدأت المؤسسة الاسرائيلية تنظر إلى الأراضي في النقب أنها الاحتياط الأكبر والأخير للدولة، وأن هناك ضرورة لإبعاد البدو عن “أراضيهم” (انظر: עמנואל מרקוס, פינוי בדווים מאזור מלחתא)، حفاظا على هذا الاحتياط، سواء لأغراض ديموغرافية أو لغرض المفاوضات السياسية المعطلة منذ سنوات أو لتحقيق ضمانات أمنية لوجستية في عصر حروب السايبر. عمليًا ازدادت أهمية أراضي النقب مع ازدياد المقترحات حول مستقبل الدولة الفلسطينية واحتمالات العودة للمربعات الأولى القاضية بتبادل الأراضي، هذا مع أنّ من يحكم اليوم متأثرا بنظريات إدارة الصراع وتقليصه ويحكم المؤسسة الإسرائيلية في هذا الموضوع ثنائية السكان والأرض، ومن هنا يمكننا أن نستجلب بعضا من معاني وتخوفات ما صدر الاثنين الماضي في لوبي حماية الاستيطان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ازدادت أهمية النقب بسبب العمل على تأسيس الصناعات السايبرية في النقب وتحوله إلى ذراع عسكري استراتيجي على أكثر من صعيد تقاني-عسكري وسايبري.
لا يمكننا فصل ما يدور على أرض النقب عن المشروع الابراهيمي الذي تصب خلاصاته في بقاء إسرائيل ومدها بالحياة، ويشكّل النقب باعتباره بوابة الجنوب والامتداد الطبيعي للجزيرة العربية نقطة حاسمة في جدل هذه العلاقة المُؤسس راهنًا على مصالح الطرفين ومستقبلًا على تعزيزها استراتيجيا بأبعادها الأمنية والاقتصادية والجغرافيا-السياسية مما يستوجب جعل النقب منطقة مفتوحة وآمنة، وهو ما سينمي (لاحقًا) الاقتصاد الإسرائيلي بأموال خليجية وسعودية تكون استثماراتها في منطقة النقب القريبة عليهم بيئيا وحضاريًا، ولذلك لا يستبعد كاتب هذه السطور إعادة إحياء مشروع قناة “النقب” التي تربط البحر الأحمر والأبيض المتوسط التي يبلغ طولها 30كم خاصة أنّ هذا المشروع يوم طُرِح في بدايات هذه الالفية تحدث عن تنفيذ مشاريع قومية تزيد من قوة إسرائيل الاقتصادية والعسكرية والبشرية وبخاصة في منطقة النقب، ويشكل في لحظة قادمة بديلا او/و شريكا لقناة السويس.
الوسائل المستعملة لتحقيق السيطرة على الأرض
تعمل الحكومات المتعاقبة على الاعتراف بالقرى مسلوبة الاعتراف بالقطارة وبناءً على مصالح إسرائيلية صرفة راهنة ومستقبلية، والأساس في جدل العلاقة مع هذه القرى، هو عدم الاعتراف بها إلا بالقدر الذي يصبّ في مصلحة الدولة فيما يتعلق بتعميق وتحقيق سيادتها، خاصة وأنها تراهن على أن كل موافقة من العشائر تتعلق بمسائل الأرض ستعزز مستقبلا منطقها السيادي المبني على قانون الأرض العثماني للعام 1858 الذي طالب الملاك بتوثيق ملكياتهم للأرض، ولذلك لا تمنح المؤسسة للقرى غير المعترف بها أية وسائل يمكن أن تعينهم في شؤونهم الحياتية اليومية رغم انهم مواطنون لا رعايا، وهذا يحدث في دولة تعتبر نفسها ديموقراطية وقد استشاطت غضبا عندما وصمها تقرير (أمنستي) بدولة ابرتهايد ولعل من نافلة القول بيان أن سياسات إسرائيل في النقب من هدم ومصادرة واعتداءات نوع من أنواع الابرتهايد، وما التفعيل الدائم للدوريات الخضراء ويوؤاف ودوريات الهدم التي تلاحق الانسان البدوي وثروته الزراعية والحيوانية، إلا التحقيق العملي لهذه العقلية.
من الوسائل التي لا تخفى علينا الهدم المستمر للبيوت بزعم أنها مبنية على أراضي دولة مختلف عليها أو أنه لا يوجد ترخيص أصلًا في البناء. ومن وسائلهم تفعيل وسائطها لشراء الأرض، وممارساتها سياسات فرق تسد عبر تعميق الخلافات القائمة بين العشائر وبالذات بين البدو والفلاحين البدو، واستغلال القانون والسوابق القانونية والقرارات الوزارية كرافعة لتحقيق مآربها، إذ يتمّ تشريع ما يشاؤون من قوانين وإصدار ما يشاؤون من إجراءات وزارية تصب في التهويد من جهة، ومنع أي تمدد طبيعي لساكنة النقب الذين هم الأكثر نسلا في الداخل الفلسطيني من جهة أخرى، وذلك من أجل تحقيق السيطرة على الأرض. ومن أدواتهم ما عمدت إليه من تشجيع للاستيطان اليهودي “الفردي” و “الجماعي” يرافقه التضييق على أصحاب الاراضي سواء كانت أراضي المراعي أو الزراعية هذا الى جانب استغلال الأراضي في شمال النقب لأغراض عسكرية وأمنية.
لقد سيطرت المؤسسة الإسرائيلية عبر عديد الأدوات الاستيطانية الرسمية وغير الرسمية على الأراضي الخصبة شمال النقب وعلى منابع وآبار المياه، وكل ذلك لثنيهم عن التمسك بقضيتهم الأولى والحارقة: قضية الأرض، ولقد حاربت المؤسسة الإسرائيلية الزراعة في شمال النقب عامدة متعمدة وكثيرا ما حرقت واقتلعت محاصيل القمح لعلمها عميق العلاقة بين الانسان البدوي والأرض. المؤسسة الإسرائيلية تعلم يقينا عمق العلاقة بين الإنسان البدوي والأرض، وكان الآباء المؤسسون في الحركة الصهيونية قد اعترفوا بعمارة الأرض عندما زاروا بلادنا ومنها النقب بعد منتصف القرن التاسع عشر (انظر: مذكرات مناحيم شينكن من قيادات الحركة الصهيونية …).