أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

النقب المعركة الأخيرة.. لماذا؟ (2)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

لا يمكننا أن نفهم الحرب الإسرائيلية المُعلنة على النقب أرضًا وبشرًا، من دون فهم دقيق للتحولات الجارية في المجتمعين العربي في الداخل الفلسطيني والإسرائيلي، وهذه التحولات لامست كافة شؤون الحياة في المجتمعين، ومن ذلك المواقف السياسية ومسائل الهويات والانتماء، ولا شكَّ أنّ النقب يشهد منذ سنوات تحولات لامست الهوية والانتماء والعلاقة مع الأرض، ليس برسم أنّها جوهر الصراع فقط، بل ولأنها تعبر عن المستقبل الوجودي للطرفين. وفي الوقت ذاته، لا يمكننا فصل النقب عن امتدادها الجغرافي وهو ما يكسبها مكانة جيوسياسية استراتيجية يدفعنا لفهم أعمق ومواز لما ذكرت آنفا للتحولات السياسية الجارية في المنطقة وتأثيراتها على مجمل القضية الفلسطينية، بما في ذلك أرض النقب. الاهتمام الصهيوني بالنقب كان مبكرًا، باعتبارها منطقة ذات قيمة استراتيجية عليا بالنسبة لإسرائيل. هذا الجنرال يدين يقول إنه درس الخطط العسكرية للقائد المسلم صلاح الدين وكيف حقق الانتصارات وكيف استطاع اجتياز النقب وتحقيق الانتصارات على الجيوش الصليبية، متوقفًا عند هذه الحيثية برسم أهميتها الاستراتيجية التي تزداد أهمية مع تحولات الحياة ومسيرة المجتمعات، ولذلك اعتبرها يدين ذات أهمية حاسمة في الحفاظ على الدولة الوليدة ورأى بتوطينها شرط أساس.

 

سياسات الأرض المحروقة..

وثّق مركز الدراسات المعاصرة في سلسلته جرح النكبة، العديد من المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في النقب، والتي هدفت إلى تفريغ النقب من الوجود العربي عبر اتباع سياسة الأرض المحروقة بعدئذ قامت باحتلال النقب وإحداث العديد من المجازر وطرد السكان، سواء انتقاما للخسائر التي تكبدوها أمام العشائر في مواجهاتهم العسكرية في أعوام 1947 و1948 وكانت الحركة الصهيونية وإسرائيل قد دفعت الشكوى الأردنية بأن إسرائيل احتلت أراض اردنية- برسم انها وفقا لمقترح فولك برنادوت تتبع النقب لدولة عربية- بردّها أنها لم تحتل أراض أردنية. وفي هذا السياق، سنجد دعما أمريكيا شاملا للاحتلال الإسرائيلي للنقب، وتزخر وثائق الأمم المتحدة بالسّجلات التي تناولت موضوع النقب ومواقف القوى العظمى التي تشكلت بعيد الحرب العالمية الثانية.

يكشف الباحث الإسرائيلي حنانيا فورات، في دراسته عن النقب الموسومة بـ “سياسات التطوير وسؤال البدو في النقب في السنوات الأولى للدولة 1948-1953، ص389” عن أنه في أعقاب القرار الأممي 194 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين شُرّدوا بسبب الحرب إلى ديارهم، سارعت إسرائيل إلى سنّ قانون يحول دون عودتهم، مناقضة بذلك القرار الأممي وضاربة به عرض الحائط- باعتبار أنّ الولايات المتحدة والغرب عموما يقف خلفها- وشرعت بتأميم الأراضي والممتلكات ومن ثم بيعها إلى دائرة أراضي إسرائيل وقد قُدّرت هذه الأراضي بـ 5,75 مليون دونم منها 2 مليون دونم للعشائر البدوية، ومن هذين المليونين دونم، 100 ألف دونم يتمّ زراعتها على مدار العام. ويؤكد فورات أنه في أعقاب سن قانون أملاك الغائب عام 1950 وقانون تملك الأراضي عام 1953 والذي منح السلطات وشركات التطوير التابعة لها حق السيطرة على تلكم الأملاك، قامت وزارتا الزراعة والدفاع بناء على تلكم القوانين، بنقل ملكيات أراضي البدو إلى اليهود.  في المؤتمر الذي عُقِدَ في سديروت “مؤتمر سديروت” عام 2013 والذي بحث مستقبل النقب تم استعراض العديد من التصورات والمخططات الحكومية حول مستقبل النقب، وإقامة سلسلة من المستوطنات في الشمال الشرقي للنقب، أي بين مدن بئر السبع وديمونا وعراد، وهو ما يعني الشروع بسياسات التهجير والهدم الممنهج للقرى غير المعترف بها فضلا عن المباني وسياسات الهدم الممارسة يوميا، وتعتبر الجهات اليمينة التي تقود هذه الحملة الاستيطانية مسألة الاستيطان والسيطرة على الأرض وخاصة بناء عشرة مجمعات يهودية في شمال النقب، أي على أراضي ساكنتها الأصليين، عملا صهيونيا وطلائعيا بامتياز وعودة إلى الأصول الثلاثة الأولى للحركة الصهيونية: إقامة وطن قومي لليهود، الاعتراف بهذا الوطن انه حق خالص لليهود، وحماية الاستيطان وتمدده المستمر، وهو ما يعني أننا أمام حملة جديدة من الحروب الإسرائيلية على الأقلية العربية الفلسطينية عموما والبدوية خصوصا.

في هذا السياق، ثمة أبعاد ثاوية في ممارسات السلطات الإسرائيلية واستعمالها القوة والعنف الذي يُحادد مفهوم الإرهاب في النظريات السياسية والقانونية وذات الصلة بمفاهيم هذا المصطلح، إذ من خلال ممارساتها للقوة والعنف تعمل على إرهاب الناس وتخويفهم لدفعهم بالقبول بما تريده هذه السلطات، متغافلة عن قضايا جذرية تتعلق بأصل العلاقة مع النقب وانه أراض محتلة من جهة ورفضها الاستجابة للقوانين ذات الصلة المتعلقة بالنقب، علمًا أنها دولة قامت بفضل تلكم المؤسسات، ومن المُثير أن إسرائيل سنّت ولا تزال قوانين تبرر جرائمها وهي حالة بينة لكل الاحتلالات المعاصرة. في الوقت الذي تزعم الحكومة ومختلف المؤسسات ذات الصلة، بالحق في فرض السيادة على الأرض، تضرب بعرض الحائط علاقة البدو مع الأرض وهي علاقة ممتدة عبر تاريخ طويل من مئات السنين، أنشأت بفضل وجودها وتجذرها طيفا من الاخلاقيات والقوانين والأعراف الناظمة لحياتهم وهذه المنظومات حفظت وجودهم من جهة وعمقت وجذرت العلاقة مع الأرض باعتبارها مكانا وهوية ومعاشا. وعمليا السلطات العثمانية باعتبارها آخر تجليات الدولة المسلمة ومن بعدها الاحتلال البريطاني احترما وأكدا على تلكم القيم والأعراف والقوانين الناظمة لحيواتهم بما في ذلك العلاقة مع الأرض.

اليوم إذ تقوم حكومة بينيت التي تعيش حالةً من التنفس الاصطناعي بفضل القائمة العربية الموحدة، تمارس دور العراب، ومن يعمل على إعادة العجل إلى الوراء، تأسيسا على مقولات صهيونية ترى بالنقب غلافها الحامي وعمقها الاستراتيجي، ومن ثم تتعاظم ضرورات الاستيلاء على الأرض وتوطين المستوطنين اليهود من الطلائعيين الجدد من أبناء الصهيونية الدينية والحاريدية الصهيونية، وهذا بحد ذاته سيؤسس مستقبلا لمواجهات بسبب حالة الادلجة المستمرة عند هذه المجموعات المُتَعيشة عليها، من جهة قناعاتها ورفضها الوجود العربي أصلا باعتبار النقباويين جموع من الغزاة، وهو ما سيدفع نحو تحديات مستقبلية ستكون الأرض الخصبة للانفجار الكبير.

وفي هذا السياق ثمة حقيقة يجب أن نتنبه لها في أن تاريخ البشرية يعرف حقيقة مؤلمة واحدة هي أن الأقوياء يسودون والضعفاء يدفعون الثمن، ثمن ضعفهم، وأحيانا كثيرة ثمن تخاذلهم، وهذه الحقيقة لا يحاججها ويهدمها إلا حقيقة ثانية مفادها أنّ الخروج من شرنق الاستضعاف وتحقيق الانتصار له أثمانه الغالية ولا يتحقق بين يوم وليلة، فما من انتصار إلا وسبقه إعداد وعمل دؤوب وتصويب نحو هدف بعينه ووحدة لا يتسرب اليها خلل وضعف وتهافت وبهتان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى