فلسفة الواقعية في النظام الإسلامي (5)
د. محمود مصالحة
تتميَّز فلسفة الواقعية الإسلامية بمفهومها التغييري لواقع الأمة العقدي، والتشريعي، والتربوي القيمي، والفكري، والحضاري، بدءًا في بناء الذاتية الإسلامية أي (الشخصية الإسلامية القيادية المستقلة) الفردية والجماعية في الواقع المكي والمدني. والتي ظهرت جليًا بعد الهجرة، ذلك الحدث المفصلي في تاريخ الأمة، فحملت الذاتية الإسلامية مشروعها الإسلامي الإنساني للبشرية، وبثبوت واقعية رحلة الإسراء والمعراج، الهِبَة الربانية العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، بعد وفاة عمه أبو طالب، وزوجه أم المؤمنين خديجة السندين الداعميْن لدعوته صلى الله عليه وسلم، فأبو طالب يدفع عنه أذى قريش، وزوجه خديجة رضي الله عنها السند الداخلي يخفف عنه الأزمات، فسُدَّت في وجهه السُبل، فبات صلى الله عليه وسلم وحيدًا يتحدى أذى قريش واعتداء الطائف، فدعاه ربه إليه برحلة العبودية في ملكوته سبحانه، ليطلعه على مظاهر قدرته الكبرى، لقوله تعالى: “لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى”، وقوله تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى” وهي رحلة في التثبت والولاية والنصرة، التي ثبتت بالدليل المادي القاطع، فشكّلت هذه المعجزة التحدَّي الإيماني، منعطفًا في الرجولة والثبات على المبدأ والهوية، وعلى طريق النصر في زمن الفتن، والمُؤكد لوقوعها، هو عدم تصديق العقلية القريشية المشركة بحدوثها، ودارت المحاججة، فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم دليلًا ماديًّا، بوصف بيت المقدس، فجلَّاه جبريل للنبي، فوصفه لهم وصفا دقيقًا، وهو الذي لم يزره قط، وكذلك أخبرهم عن عير لبني فلان تطلع عليهم عند الثَّنية في التنعيم يقدمها جمل أورق، فذهبوا ونظروا فوجدوها كما قال صلى الله عليه وسلم، ورغم هذه الدلائل المادية لم يؤمنوا، وقد كشفت هذه المعجزة النبوية عن واقعية صدق وثبات الثلَّة المؤمنة التي كانت كالشُمِّ الرّواسي، متمثلة بأبي بكر رضي الله عنه بردِّه على بعضهم، بقوله: “لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أوَتصدقه أنَّه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء” وبهذه المعجزة العظيمة تجلّت الولاية والمحبة الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق النصر والتمكين لهذا الدين، وأشرقت الذاتية الايمانية بثباتها في زمن الفتن، وكذلك شكَّلت هذه المعجزة العظيمة بوصلة ثبوت الحق الإسلامي بلا منازع في المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، حاضِر العزة الدينية للأمة الإسلامية التي تحرص على تحريره من قبضة الغزاة المحتلين عبر التاريخ الإسلامي.
أمّا الهجرة النبوية الشريفة، ذلك الحدث الواقعي المفصلي في تاريخ الأمة الإسلامية، التي كان حدوثها بأمر من الله عز وجل، وسرد أحداثها من التخطيط الدقيق والتنفيذ المحكم للدروس والعبر ليس هو الأهم فحسب، بل الأهم هو اليقين بأن الله تعالى هو القادر على نقل نبيِّه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة كما نقله إلى المسجد الأقصى بمعجزة كالبراق، إلَّا أنَّ الهجرة أمرٌ يتعلَّق بواقعية البشر، لتكون دروس وعِبَر، للتعلم من أحداثها، وقد قدَّر الله تعالى أن تكون بمقاييس البشر، معززةٌ بالعناية الإلهية التي تدخّلت فأفشلت تَمَكُّن المشركين من وقفها عند غار ثور، لذلك فالأخذ بالأسباب واجب مع التعلق بمعيَّة الله الذي بيده ملكوت كل شيء، والتوكل عليه، واستغاثته طلبًا لنصرته، فهو مسبب الأسباب، فعنايته سبحانه قد حفظت النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة لإقامة الواقعية الإسلامية للدولة التي تحمل المشروع الإسلامي العالمي.
وما كانت لتكون واقعية التمكين للدولة الإسلامية، إلا بالهجرة إلى المدينة، فأُعدَّ لها بعناية وبسرية البيعتين للنبي صلى الله عليه وسلم، العَقبة الأولى والثانية مع أهل دار الهجرة ممن أسلم من كبرى قبائل المدينة من الأوس والخزرج، اللتان شكلتا عملًا مُحْكم التنظيم، استعدادًا للهجرة النبوية الشريفة التي غيرت الواقع المجتمعي في المدينة، أمّا هجرة الصحابة الكرام إلى المدينة بعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت من تنكيل بطش قريش، حيث كانت من معالم الصبر والثبات، ولم يكن بمقدور النبي صلى الله عليه وسلم حمايتهم ماديًا، فأذن لهم بالهجرة لإتمام بناء واقعية المجتمع وصناعة الدولة الجديدة في المدينة.
وقد أُسست واقعية الدولة الإسلامية على القيم الإيمانية كالعبودية والأمانة والاستقامة والحق والإخلاص والصبر والأخوة… ولما عظُم الدين في قلوبهم، استصغرت نفوسهم الدِّيار والأموال أمام نصرة الله ورسوله، فوجدوا إخوانهم الأنصار يتلقونهم بالمحبة والإيثار والتعاون، واتسمت تلك الواقعية المجتمعية الجديدة بين المهاجرين والأنصار بروح الأخوة الايمانية التي لم يسبق لها مثيل، قال تعالى فيهم: “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” سورة الأنفال:9.
إنها واقعية التمكين في الأرض، السنَّة الإلهية والكرامة الربانية، فاستحضارها منوط بالتفاعل معها بالتغيُّر المجتمعي، فلمّا غيروا غيّر الله واقعهم من حالة المطاردة إلى حالة المَنَعَة، ومن الضعف إلى القوة، ومن التفكك إلى وحدة القبيلتين المتقاتلتين الأوس والخزرج، فاكتسوا بحلة الأنصار، وأضاف المهاجرون إلى قوتهم قوة، ثم جاءهم فتح من الله ونصر مبين.
وهكذا: هي الطريق نحو تغيير واقعية القومية العربية المستوردة الفاسدة المتخلِّفة المُذلة التي ابتليت بها الأمة قرنًا من الزمان، إلى الواقعية الإسلامية المشرقة التي تستدعي العمل الجاد وفق سُنن التمكين الإلهية لقوله تعالى: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”.