مجتــمع ينضح عنـــصرية (1)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
نشأت الحركة الصهيونية في رحم الثقافة والحضارة الغربية، واستبطنت وتأثرت تأثرا كبيرا بالتطورات الثقافية والفكرية والايديولوجية التي صاغت أوروبا في تلكم المرحلة الحساسة من تاريخ أوروبا، وتبنّت الفلسفة العنصرية بكل تطوراتها وتركيباتها الفلسفية والدوغمائية، ذلكم أنّ ثمة اتجاه صهيوني يؤمن بأن اليهود هم عرق مستقل عن بني البشر لم يرتبط قط بالآخرين من بني البشر، بل حافظوا على عرقهم أبد الدهر، وأن هذا “الحفظ العرقي” هو أساس الهوية اليهودية والشخصية اليهودية. ووفقا لهذا الفهم، فهذا فهو التعريف البيولوجي لليهود. وقد ذهب المسيري في موسوعته إلى أنّ موسى هيس “1812-1875” هو أول من طرح تعريفا بيولوجيا لليهود وأنّ، عرقهم من الأعراق الرئيسية في الجنس البشري (المسيري، 1999)، علما أن الأبحاث والدراسات المعاصرة والحديثة حول يهود الخزر تنسف هذه النظرية نهائيا، وفي سياق هذا التأثير والتأثُر المتبادل تبنى مفكرو الحركة الصهيونية النظرية العنصرية بكل محايثاتها من إثبات نقاء عرقهم وطهارته إلى الممارسات العنصرية بحق الفلسطينيين والعرب على أرض فلسطين إبّان الحكم العثماني والانتداب البريطاني أي قبل قيام دولتهم وقبل وعد بلفور، ومراجعات بسيطة لأدبيات القيادات الصهيونية تبيّن حجم العنصرية التي تنضح من كتاباتهم وهو موضع بات محسوما لدى كل باحث بالشأنين اليهودي والصهيوني، وقد بثت القناة الـ 13- سابقا القناة العاشرة- بين 11-14/7/2107 سلسلة تقارير في نشراتها الاخبارية المركزية حول الـ DNA “الإسرائيلي” ويهودية اليهود وصلتهم الجينية في إسرائيل التوراتية مستجلبة العديد من الشخصيات التي تمَّ فحص جيناتها (DNA) لتثبت في هذه السلسة نقاء العرق اليهودي وصلته بهذه البلاد. وقبل أن تشرع هذه القناة بهذا الهوس المالتوسي ذهب عالم الاجتماع الإسرائيلي إغناتز زولشطاين في سبعينيات القرن الماضي إلى أنّ “اليهود أمّة من الدم الخالص الذي لم يشوبه أمراض التطرف والانحلال الخلقي”.
في هذا السياق التنظيري العنصري المتأثر من العنصريات الغربية والمستند إلى منظور توراتي- شرعي، تبلورت أفكار عنصرية ساهمت في تعزيز التفكير العنصري “الصهيو- يهودي” والذي نمت بداياته في الأدب الصهيوني في الدياسبورا، في بلاد الروس “أوكرانيا، روسيا، مولدوفا” واتّسعت مساحاته باضطراد مستمر لتتجلى تداعياته الاولى في الهجرات الاولى لفلسطين، إذ تشير الأدبيات الصهيونية المبكرة إلى هذه النزعة، وقد سبق هذا التوجه بناء الإنسان اليهودي الجديد في أوروبا حيث ترافقت عملية البناء الجديد مع منظومة متكاملة من القيم والأخلاق التي توافرت لتشكل أرضية لتأسيس “القومية اليهودية ” التي شكّلت الأرضية القومية للحركة الصهيونية على غرار الحركات القومية الأوروبية، وهذه الحركة بكل تطوراتها الفكرية “العنصرية” رأت في أرض فلسطين أرض الآباء والأجداد، ورأت بساكنتها العرب مجرد مستوطنين “غزاة” يجب طردهم والخلاص منهم. ولقد قدّمت الحركة الصهيونية نفسها على أنها جزء من الاستعمار العالمي وأنها تقدّم له خدمات وأنها جزء من الحملة الاستعمارية العسكرية على الشرق الأوسط “الأدنى” وأنها تمارس دورا وظيفيا مهما يخدم أوروبا والصهيونية على حد سواء، ليس من باب تبادل المنافع، بل من باب تكاملها.
تغلغل العنصرية
العنصرية تغللت في الفكر اليهودي كما في الممارسة والأخلاق أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين واعتبرت الحركة الصهيونية التي شرعت باستيطان فلسطين تحت الحراب البريطانية، أصحاب الأرض مجرد غزاة، وحتى تتم شيطنة ساكنة البلاد فقد تفنن الصهاينة والإنجليز على حد سواء في هذه العملية، ابتداء من التحليلات الداروينية للسكان، استهتارا بخِلقتهم وأنهم على غير خلقة باقي الآدميين وانهم مجرد قتلة وقطاع طرق يجب طردهم ونفيهم، وتساوقت هذه النظرية العنصرية البيولوجية- السياسية مع الفكر العنصري/ الاستعماري الذي انتشر في أوروبا كمبرر للقتل والإبادة التي ينفّذها بحق أصحاب البلاد في افريقيا والأمريكيتين وآسيا، وهو ما منحهم شعورا فوقيا وصفه جلعاد عتسمون بـ “لقد كان التفوق مغروسا في أرواحنا وكنا ننظر الى العالم من خلال منظار شوفيني عنصري- (الشوفينية: هي التعصب المغالى فيه للمجموعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كانت مجموعة دينية أو عرقية أو وطنية. وتطلق الصفة في العادة على الأشخاص المغالين في حب أوطانهم والذين يتعاملون باستعلاء إزاء الأمم والشعوب الأخرى- من دون أن تشعر بالخزي إزاء ذلك أيضا).
رئيس بلدية القدس عام 1899، ضياء الخالدي حذّر من مخططات الحركة الصهيونية وسعيهم الاستيلاء على أرض فلسطين، وكشف الغطاء عن عنصريتهم وشوفينيتهم مُبكرًا وأنهم خطرٌ يُداهم المجتمع الفلسطيني، وعليه فالفلسطيني فردًا ومجتمعًا كان ولا يزال يُعاني من هذه العنصرية المدعومة والمدفوعة، ولذلك فكافة التقارير التي تبيّن تنامي العنصرية في المجتمع الإسرائيلي الراهن هي في جوهرها امتدادٌ للذي أشرت إليه باقتضاب، ولذلك لم يفاجئنا تقرير “حملة- المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي”، الذي نُشِرَ يوم الثلاثاء الفائت (18/1/2022)، وفيه نتائج مؤشر العنصرية والتحريض في شبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية خلال العام 2021 على مجتمعنا العربي الفلسطيني في الداخل، كاشفا عن ارتفاع في خطاب الكراهية تجاه أصحاب البلاد بنسبة 8% عن العام الفائت.
عمليا، هذه النتائج لا تفاجئ- كما ذكرت- كل مراقب للشأن الإسرائيلي وحركته المجتمعية البينية، سواء من خلال ما يرشح من أقوال وأحوال في أدوات التواصل أو الإعلام العام أو الفضائيات المختلفة أو الحديث العام في الشارع، فالمجتمع الإسرائيلي أكثر مجتمعات الأرض تَعرضا لغسيل الدماغ واتباعًا لما تقوله وسائل إعلامه وأدواتها المختلفة، إذ تصل مسألة الايمان بهذه الأدوات حدَّ القداسة.
تعود أسباب هذه العنصرية المتفشية في المجتمع الإسرائيلي الى الحركة الصهيونية وما ذكرته في متن هذه المقالة وإلى بدايات التكوين الصهيو- يهودي للمجتمع “الإسرائيلي” الذي تمَّ تخليقه في المختبرات العسكرية والكيبوتسات ومعاهد تدريس العبرية للقادمين الجُددْ. وهذه العنصرية التي تتعاظم باستمرار يعضدها غلو سياسي وشعبوية سياسية يتحمل كبرها الطيف السياسي الحزبي الإسرائيلي. المؤشر المُشار إليه يكشف عن ارتفاع في المحادثات العنصرية على صفحات لتواصل من 547 ألف محادثة عام 2020 إلى 620 ألف محادثة عنصرية أي بزيادة قدرها 13.5% وارتفاع نسبة خطاب العنف بـ 11% وطفحت صفحات التواصل بكلمات نابية وسب وشتم وتحريض دموي على الفلسطينيين. في مجتمع تتراجع أخلاقياته (لاحظ/ي ما يدور في الكنيست وأروقتها من إسفاف في الخطاب) وقيمه وتهبط مسرعة إلى الأسفل لا يسعنا إلا أن نتوقع مثل هذا الانحطاط اللفظي، وكنّا قد شهدنا معالم فاشية المجتمع إبّان أحداث هبة الكرامة، بيد أننا بحاجة إلى فضح هذا الخطاب ليس من باب أننا نتوقع من المؤسسات الإسرائيلية معالجة الأمر ففاقد الشيء لا يعطيه، بل من باب أخذ الحيطة والحذر، ففي مثل هذه الأجواء والمستنقعات يخرج شباب التلال ومجموعات “تدفيع الثمن” والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.