هل وعت الحركات السياسية الكنيستية في الداخل الفلسطيني معنى وجودها؟
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
يزعم كاتب هذه المقالة أن ثمة إشكال قائم في المعطى البنيوي الفكري والأيديولوجي للأحزاب والحركات المشاركة في الكنيست ومنطلقا من محايثات الفكر الصهيوني على اختلاف تدرجاته وتنوعاته داخل الطيف المُسمى “صهيونية” والمتجلي أخيرا في الصهيونية الدينية على اختلاف مدارسها ومعها اليمين الصهيوني العلماني والمحافظ والوجود السياسي الحاريدي الذي بات متأثرا من الصهيونية وجودا وعدما.
تنطلق هذه المقالة من ثلاث محاججات تُشكل الناظم لها، أولا: الحركة الصهيونية أنشأت إسرائيل على انقاض الشعب الفلسطيني وكل من يسعى لتجاوز هذه الحقيقة بزعم الواقعية السياسية والبرجماتية والغاية تبرر الوسيلة ستصدمه هذه الحقيقة بحيثياتها العملية التي نعيشها على مدار الساعة وليس أقلها مسألة الصراع على الأرض التي تتجلى هذه الأيام معالمها البَّينة في النقب. ثانيا: لقد كان من مصلحة الحركة الصهيونية بعدئذ فشلت في عمليتي تبييض المكان والزمان في لحظات النكبة وما رافقها من تداعيات أن تعمل على احتواء المتبقي الفلسطيني في إسرائيل وهذا الاحتواء شَمِلَ سياسات كثيرة هي محل دراسات محكمة وأكاديمية، والاحتواء السياسي كان من بين هذه السياسات وقد بدأت هذه العملية مباشرة مع أول انتخابات جرت عام 1949 (استنادا إلى قراءات جدل العلاقة بين الشعب الفلسطيني والحركة الصهيونية كحالة استعمارية محمية دوليا وعربيا فقد مرّت في أربع مراحل، مرحلة التَعَرف والانخراط والتقرب من الفلسطينيين ومرحلة المواجهة والتي كان للاحتلال البريطاني الدور الأساس في تعزيز الوجود الصهيوني وتمكينه عسكريا لتنتهي بإقامة إسرائيل، ومرحلة العزل المتمثلة بالحكم العسكري والتي تمّ فيها تفعيل عدد هائل من أدوات الرقابة والضبط والتفكيك والتحايل، وأخيرا مرحلة الاستيعاب وهي مرحلة رافقت مرحلة العزل عبر سعي لخلق نخب منبطحة وترويض السياسيين، وهي المرحلة التي ما زالت قائمة وإن طرأ عليها بعد التحسينات والملاحظات في السنوات الأخيرة سواء بسبب سياسات اللبرلة والانفتاح المُعزز لقيم الفردنة في ظل تغول الحالة الرقمية ومهمة الاستيعاب: استمرار عملية الترويض)، وأخيرا، العمل الذي لم يتوقف لحظة لسحب اعتراف من فلسطينيي الداخل بيهودية الدولة ليس بسبب أنّ إسرائيل قائمة وقوية تملك جيشا ومؤسسات بقدر ما هي الحاجة الأخلاقية محليا أي بالنسبة للساكنة اليهود وللخارج، إذ اعتراف ابن الداخل الفلسطيني بيهودية الدولة يحسم مرحلة تاريخية طال امدها بالنسبة للمؤسسة الحاكمة ذلكم أنّ عدم الاعتراف معناه أنّ ملفات الصراع مفتوحة وإن ملكت إسرائيل أسباب القوة والمكنة والمجد.
تذويت يهودية الدولة..
في الوقت الذي دار على مدار عقود جدل ثقافي بين الإسرائيليين أنفسهم حول أيهما يتقدم في تعريف الدولة ديموقراطيتها أو يهوديتها فإن أعين المراقبين والمسؤولين الإسرائيليين بما فيهم الطغم الاكاديمية كانت تفرك يدها فرحا والمثقف الفلسطيني يناقش هذه القضية إذ مجرد طرحها شكّل مقدّمات في سياقات علم النفس السياسي للتوطئة لقبول انها يهودية سواء تقدمت عليها الديموقراطية أم لا، إذ المهم الاعتراف بالبعد اليهودي باعتباره ثاوٍ في الدين والقومية ويجادل بينهما اللاهوت اليهودي بشقه السياسي ويمكن للقارئ الكريم وللقارئة الكريمة الدخول إلى موقع المعهد الإسرائيلي للديموقراطية ليطلع على هذا المعنى.
لم يغب للحظة واحدة عن دهاقنة الصهيونية التي أسست هذه الدولة، أنّ هذه المجموعة المتبقية تشكل الخاصرة الضعيفة في معنى الدولة “اليهودية”، ولذلك سعت بكل ما أوتيت من إمكانيات لتذويت الوجود الصهيوني كوجود يهودي ناقلة إياه من الصهيونية فكرا وممارسة إلى اليهودية تاريخا ودينا، وهو ما تَطلَّب من القائمين على المشهد السياسي “الإسرائيلي” التعامل مع من تبقى من الفلسطينيين بقفازات من حرير تارة وبقفازات من حديد تارة أخرى والهدف الأساس تذكيرنا بالنكبة من جهة وبأن إسرائيل اليهودية قائمة وستبقى ولذلك كان الاحتفاء غير المسبوق من مختلف الطيف السياسي والايديولوجي الصهيوني في كلمات النائب عن الموحدة عباس منصور في مؤتمر صحيفة غلوبس الاقتصادية، المتعلقة بيهودية الدولة فلطالما سعت هذه المؤسسة وكافة مرافقها السياسية والأمنية لاستصدار بيان أو اعتراف من القيادات السياسية في الداخل الفلسطيني بيهودية الدولة.
بالعودة إلى الوراء ثلاث سنوات فقط، فقد كان للمظاهرة الجبارة عام 2018 الرافضة لقانون يهودية الدولة أثر هائل على متخذي القرار من اليمين والليكود ووصل مداه الى الحركة الصهيونية ومقرها في نيويورك، ودفعت أقطابا سياسية إسرائيلية صهيونية لتصيح بأنها ستعمل على إدخال تحديثات وتغييرات في هذا القانون الذي استفز كل من ليس يهوديا وفي مقدمتهم أولئك الذين يخدمون في سلك الشرطة والجيش ومختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية. في هذا السياق تحديدا وفي كثير من المواقف كان من المتوقع أن تمارس الأحزاب والحركات السياسية المُعترف بها دورا تنمويا سياسيا ينمي الوعيين السياسي والنضالي ويدفع نحو مزيد من فضح الحالة السياسية الإسرائيلية، وهو ما يشير إلى أنّ هذه الحركة تعيش حالة تضخم في الأنا السياسية غير واعية لمعنى وجودها السياسي المؤسس لتراكم توعوي سياسي-مجتمعي. عمليا لا يستقيم وجود حركات سياسية عربية في الداخل الفلسطيني مهما كان ثوبها السياسي والايديولوجي تمّ تشريد أهلها وإبادتهم في الكنيست التي هي أحدُ المكونات الثلاثة للمؤسسة الإسرائيلية، برسم انها المُشرع، الذي يمنح الغطاء “الأخلاقي” تحت مظلة القانون لتلكم الممارسات التي تجذر وتوطن منجزات النكبة اسرائيليا وما تلاها من تداعيات مصيرية على الوجود الفلسطيني.
المؤسسة فرّغت جيشا من المؤرخين والفلاسفة وعلماء الأخلاق لتبرير تلكم الجرائم وتحريرها “أخلاقيا”، وكون هذه الحركات السياسية تمارس دورا في الكنيست التي سنّت كافة القوانين لتثبيت منجز النكبة فإنها تعيدنا إلى فهم علاقة المغلوب بالغالب وفقا لنظرية ابن خلدون ونظرية القابلية للاستعمار وفقا لطروحات مالك بن نبي والتعاون الخفي مع المُستعمِر من قبل النخب البرجوازية وفقا لطروحات فرانز فانون.
ثمّة تناقض أخلاقي بين وجود أحزاب عربية ممثلة للفلسطيني إنسانا وجماعةً في الكنيست وزعمها ليل نهار انها تحارب في الكنيست وخارجها من أجل تثبيت وجوده عبر أدوات مجترحة من المعطى السياسي الموصول بالكنيست سواء كان عبر تحقيق اعتراف صهيوني بالمساواة وإما العمل على دولة لجميع مواطنيها أو من خلال التعاطي مع الأمر الواقع والتأثير المُباشر من الداخل وهو في الحقيقة ما يحيلنا إلى فهم أعمق لمعنى العلاقة مع المُستَعمِرْ وهل هذه الأحزاب والحركات غير واعية لمعنى التعاطي مع مؤسسة صهيونية قامت على بقايا وطنه وأهله واستحالت واقعا بفعل عوامل ذاتية وخارجية ماضية في غيها اتجاه تثبيت وجودها ونفي الآخر الفلسطيني ضاربة بعرض الحائط كل الصيرورات التاريخية لجدل الصراع مع الفلسطينيين، وهل هذه الأحزاب والحركات تمارس واقعية سياسية “ما” دفعت أخيرا القائمة العربية الموحدة للتقدم خطوة إلى الامام في مفهوم الواقعية السياسية الذي شكّلت مرحلة الاستيعاب من لحظة المُشاركة في الكنيست عام 1949 وأحاله فعلاً تأسيسيا وصل مرحلته المتقدمة بالتوصية على بيني غانتس وزير الحرب والمتهم بجرائم حرب على شعبنا الفلسطيني لتكون مسألة المُشاركة السياسية في ائتلاف حكومي تحصيل حاصل محملة لأسوأ معاني الرذيلة السياسية المعلقة على مشجب التأثير.
الحركات المُشاركة في الكنيست والتواطؤ مع المُستَعمِرْ
بعيدا عن فلسفة الحركات والأحزاب الإسرائيلية في جدل علاقاتها مع الأرض راهنا ومستقبلا ومن ثم العلاقة مع الكل الفلسطيني في فلسطين الانتدابية، فإنَّ مشاركة الأحزاب والقوائم العربية في انتخابات الكنيست هو في جوهره عملية قبول لمُخرجات النكبة من جهة والتعاطي مع هذه المُخرجات ليس كحالة تدافعية بل كقدر محتوم، ولذلك لم تتعاط هذه الأحزاب مع الوجود الإسرائيلي على انه استعمار يجب مواجهته وأنّ محوه أي الاستعمار يتطلب دائما حدثا بيانا على رؤية فانون والعبادي “المغاربي” إذ لا يمكن التفاهم والتودد مع الاستعمار، ولذلك مارست الأحزاب والقوائم والحركات السياسية المُشاركة في الكنيست عملية تطبيع ذهني وأخلاقي مع الوجود الصهيوني الاحلالي مستفيدة من وجودها داخل الكنيست ماديا، وبذلك تحولت هذه الهيئات على اختلاف ايديولوجياتها الى عراب يخدم الوجود الإسرائيلي مقابل الحصول على امتيازات وعمّقت عمليا عبر الأجيال مسألتي المشاركة السياسية ضمن سقف الكنيست والقبول بالإسرائيلية كهوية وهو ما تعمق راهنا ومستقبلا مع دخول الموحدة الائتلاف الحكومي.
في هذا السياق تحديدا بزت القائمة العربية الموحدة نظراءها من الطيف السياسي الموجود في الكنيست ليس بأنها شاركت في الائتلاف الحكومي مؤخرا فهذا في حقيقته تحصيل حاصل كما أشرت إلى ذلك في مقالتي السابقة، بل في تبريرها للمشاركة والممارسة تحت غطاءات الواقعية السياسية وخدمة الساكنة العرب في قراهم ومدنهم ونجوعهم هو ما سيخدم مسألتي الهوية والانتماء الاسرائيليتين، وهو عمليا الوجه الخفي للتواطؤ في سياق رؤى مستقبلية تخدم إسرائيل في ظل “اتفاقيات ابراهام” وتمددها عربيا وإسلاميا.