في تحولات التحالفات.. الاقتصاد والدولة الوطنية أولا
تشهد المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط حالة من التحولات السياسية الظاهرة في إعادة ترتيب “التحالفات” بين دولها، بعدما كانت المنطقة تشهد حالة من القطبية وبناء محاور مختلفة مرتبطة بالمواقف السياسية والأيدلوجية، ليتغير الحال في الأشهر الأخيرة لصالح تبدل في الخارطة السياسية ليس بالضرورة ببناء تحالفات متينة جديدة بل لإعادة ترتيب الخلافات ومركزيتها ولتكون هذه الخلافات القائمة معبّرة فقط عن مواقف لا تؤثر بالضرورة على علاقة هذه الدول ببعضها (على الأقل مرحليا).
ولكي نكون أكثر دقة يبدو أن إعادة موضعة العلاقات في الخليج العربي بين قطر والسعودية، وقطر والإمارات، ومجمل الدول الأخرى، إلى جانب إعادة ترتيب العلاقات بين عدد من الدول بينها السعودية والإمارات ومصر من جهة وتركيا من جهة أخرى، وبنفس الوقت حديث تركيا عن إعادة ترتيب علاقتها مع الإسرائيليين، والإمارات مع الإيرانيين، كل هذا يُشير إلى تحولات في المنطقة تعتمد على 3 عوامل مركزية:
أولا عوامل سياسية:
ضمن سياسة “صفر مشاكل” و”أكثر استقرارا”، فمع أحداث الربيع العربي التي قلبت توازنات المنطقة وارتبطت بتخوفات الدول المختلفة من مستقبل أنظمتها القائمة وأركان دولتها العميقة ومن انتقال مظاهر الربيع العربي لبلدانها؛ كانت مواقفها السياسية المرتبطة بالربيع العربي وتجلياته واضحة بالوقوف ضده وبالوقوف ضد من يسانده، فيما ارتأت أخرى الوقوف معه لمصالحها السياسية ولرؤيتها المرتبطة بمستقبل المنطقة فيما إذا نجحت هذه الثورات، ناهيك عن بعض الأسباب الأيديولوجية أو المبدئية التي راوحت مكانها بين المصالح والمفاسد التي يمكن أن تجنيها هذه الدول.
ولكي لا يكون الحديث عاما، فقد كانت مواقف الدول المختلفة مرتبطة بـ3 قضايا:
- طبيعة الدولة التي تعيش التحوّل.
- المستقبل السياسي المتوقع لهذه الدولة.
- تأثيرات الثورات في هذه البلدان على الخارطة السياسية في المنطقة.
فكانت المواقف مما يجري في سوريا مرتبطة -على سبيل المثال- بعلاقة بعض الدول مع النظام السوري، وفي السياق المصري مرتبطة بعمق مصر وتأثيرها واحتمالات أن يكون التيار الإسلامي في السلطة. وهكذا اختلفت المواقف ليكون لدينا انقسام واضح في مواقف أنظمة الشرق الأوسط من أحداث الربيع العربي، من إيران إلى تركيا وإلى دولنا العربية المختلفة وحتى الإسرائيليين.
ولكن ما يمكن الإجماع عليه أن هذه المواقف أثّرت على حالة الاستقرار السياسي والتعاون البيني بين دول المنطقة، لتترجم إلى عدد من المشاكل وقطع العلاقات كما حدث بين تركيا ومصر، وقطر والدول الخليجية الأخرى، وزيادة التوتر الإيراني العربي، وغيرها من المواقف المتباينة.
ومع حالة التراجع أو الاستقرار النسبي في حالة الثورات العربية وواقع مراوحة المكان وعدم التغيير الذي يخيّم على المشهد السياسي، يبدو أن هذه الدول ستحاول إعادة موضعة علاقاتها في سياق يراعي التحولات الدولية والاقتصادية الأخرى، ضمن هدف الوصول إلى حالة استقرار سياسي و”صفر مشاكل” (إذا كان هذا ممكنا!) في سعي لتجاوز التغييرات الدولية القائمة المرتبطة بوجود رئيس جديد في البيت الأبيض، وجائحة كورونا، والوضع الاقتصادي المتأزم الذي يعيشه العالم.
ثانيا عوامل اقتصادية:
فمع جائحة كورونا وما سببته من أزمات على الاقتصاد العالمي وعلى الاقتصادات المحلية، باتت عدد من الدول تعاني من أزمات داخلية تحتّم التعاون وفتح فرص وآفاق تعاملها مع الدول الأخرى. وتظهر في هذا السياق أهمية “الاقتصاد الوطني” والحفاظ على الدولة الوطنية” على حساب الأجندة المرتبطة بالقضايا الخارجية. كل ذلك يترافق مع حالة من التحولات التي تعيشها المنطقة في عدة جوانب اقتصادية مرتبطة باكتشاف الغاز في شرق المتوسط والتحولات المرتبطة بسوق نقل البضائع والملاحة البحرية، وكذلك موجة الغلاء وحالة التضخم التي تعيشها بعض الدول في المنطقة.
ثالثا عوامل أيديولوجية:
حيث تخيّم على المنطقة حالة من التراجع في الاصطفاف الأيديولوجي على حساب الاصطفافات الأخرى، ضمن معادلتين مهمتين:
- مركزية قضايا الدولة الوطنية (خصوصا الاقتصادية).
- حالة الضعف الذي تعيشه المجموعات الأيديولوجية. فلطالما لسنوات كانت الاصطفافات مرتبطة بالانقسام الأيديولوجي وخصوصا مع صعود الحركات الإسلامية للسلطة في عدة دول عربي.
ويبدو أن حالة الركود السياسي الذي تعيشه المنطقة بعد الانقلاب العسكري في مصر وتراجع دور الحركات الإسلامية على الأقل في الجانب الرسمي في عدة دول، جعلت بعض الدول تؤثر ترك هذه القضية على الرف حاليا على حساب أزمات أخرى تعيشها على المستوى الوطني، ويبدو أن ذلك ليس تنكرا لبعده الأيديولوجي ولكن إعادة صياغة للأولويات.
بالمجمل فإن إعادة صياغة العلاقات لن تكون بالضرورة ناجحة بشكل كامل أو طويلة الأمد مع عمق الخلافات بين الدول وارتباطاتها برؤى مختلفة وأيديولوجيات متباينة، ولكنها تبني على إمكانية التعاون في الممكن ضمن أولويات التحديات الاقتصادية والسياسية المرتبطة بهذه الدول ومصالحها المرتبطة بالدولة الوطنية ذاتها وليس بالدور الإقليمي، والاتفاق على ترك الخلافات القائمة بمستوى متدنٍ وبأولوية أقل، وبالتالي يبدو أن هذه العلاقات سيكون من الصعب أن تكون إستراتيجية فيما لم تتغير الأيديولوجيات والرؤى السياسية من خلفها، ولكنها ستسعى لتكون قائمة في المرحلة المقبلة على اتفاق على ترك الخلافات حول الأجندات الأخرى على مستوى أقل مع تعاون في القضايا الأخرى، خصوصا الاقتصادية.
طبعا فإن هذه العلاقات باتت تبنى بشكل يتجاوز التحالفات القديمة، ولكنها ستمر بعثرات مركزية، أولا أن إيران -وهي لاعب مركزي في المنطقة- لم تبدِ بعد موقفا إيجابيا متجاوزا خلافات الماضي والقضايا المركزية (خصوصا في الملف النووي ودورها في دول المنطقة) وإن كانت مستعدة لبناء علاقاتها من جديد، وخصوصا مع عمق الأزمات الاقتصادية التي تعيشها طهران، ويظهر بعض التغيير من دعوتها لمستشار الأمن القومي الإماراتي لزيارة طهران، ولكن يبدو أن الدليل المركزي على إعادة خطوط علاقاتها بالمنطقة مرتبط في الموقف السعودي، وإقرار إيران أنها يجب أن تتنازل في بعض الجوانب، فيما تبدو العثرة الثانية، مرتبطة بالموقف من الدور الإسرائيلي، ويبدو أن هذا الملف سيكون محسوما بتركه للقرارات التي ستتخذها كل دولة لنفسها، ولكنه سيبقى مشكلا لعدم حل القضية الفلسطينية والتي يمكن أن تكون عامل تفجّر جديد في المنطقة ولجهة الملف الإيراني والتعامل معه من قبل الإسرائيليين. ثالثا، كما هو التعويل في العلاقات الدولية على أن اللاعبين الدوليين عقلانيين في قراراتهم، فإن هذا الأمر يبقى إشكاليا مع أنظمة سلطوية وفردية يمكن أن تُبدل قرارتها بين ليلة وضحاها. رابعا، تفجّر غير متوقع في إحدى قضايا المنطقة يمكن أن يجعل هذه الاصطفافات موضع تراجع مع هشاشة بعض المبادئ المعتمدة عليها وحاجة بعض الدول لتكون صاحبة موقف يتجاوز المصالح.