الشيخ رائد صلاح.. عقود من النضال في الدفاع عن الأقصى والثوابت
موطني 48
يتحرر الشيخ رائد صلاح، اليوم الاثنين، من قيود السجّان الإسرائيلي، بعد أن قضى 479 يوما في العزل الانفرادي بالسجون الإسرائيلية نُقل خلالها إلى عدة سجون، إمعانا من السجان في التضييق عليه ووضعه في ظروف اعتقال قاهرة.
يخرج الشيخ رائد صلاح إلى الحرية بين أفراد عائلته وبلده وأبناء شعبه، مع انقضاء محكومية بالسجن الفعلي 28 شهرا على خلفية الملف المعروف إعلاميا لـ “ملف الثوابت”، علما أنه سُجن فعليا على خلفية الملف 11 شهرا خلال فترة النظر في اعتقاله بالمحاكم الإسرائيلية.
قبل دخوله السجن بتاريخ 16/8/2020، كانت ابتسامته تودّع المئات من أبناء شعبه الذين اصطفوا للسلام عليه، واليوم سيخرج من سجنه مبتسما كعادته وكأنها ذات الابتسامة امتدت إلى يوم التحرر، حتى يقول للسجّان إن قيودك لم تفت في عضدي ولم تخطف ابتسامتي، هي ابتسامة يرسلها كذلك إلى أبناء شعبك وآلاف المستقبلين والمهنئين مفادها أنه لا يهاب السجون ووحشتها إن كانت دفاعا عن الثوابت الإسلامية والعروبية والفلسطينية.
قُسّمت مسيرة الشيخ رائد صلاح منذ عقود طويلة شطرين بين نضال ورباط بالمسجد الأقصى، أو سجن يقضي فيه حكما بالاعتقال التعسفي، وغالبا ما تكون سجونه انفرادية، أما جهوده لحماية الأقصى والدفاع عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جعلته واحدا من أهم حراس الأقصى منذ أن واجه الغزو الصليبي قبل قرون ثم الإسرائيلي لاحقا.
ينتمي الشيخ رائد صلاح إلى فلسطين أرضا وقيما وثقافة، ويحمل على عاتقه منذ أكثر من أربعين سنة همّ دحر الاحتلال وحماية مقدسات الأمة، وتحرير العقل والفعل الفلسطيني من أوهام الدعايات الإسرائيلية.
يعتبر الشيخ رائد صلاح من أهم وأشهر رواد العمل الإسلامي في فلسطين، وقد كان الشيخ رائد صلاح من الجيل الأول من مؤسسي الحركة الإسلامية، وبموجب هذا الانتماء اختبر أول تجربة له مع السجن سنة 1981 بتهمة الانتماء إلى تنظيم محظور وهو حركة “أسرة الجهاد”.
عُرف الشيخ رائد صلاح بمواقفه الصارمة من التطبيع والتقارب بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ورأى في اتفاق أوسلو، جريمة خطيرة وضربة ثقيلة للقدس والمسجد الأقصى، معتبرا أن هذا الاتفاق لم يكن أكثر من منحة فلسطينية إلى إسرائيل للاستمرار في تهويد المسجد الأقصى.
كما وقف الشيخ رائد صلاح بقوة ضد الاقتتال الفلسطيني، ودعا إلى لم الشمل والوحدة الوطنية، معتبرا أن هذا الاقتتال سيمهد الطريق أكثر للاحتلال الإسرائيلي كي يغرس مخالبه بشكل أعنف في جدران المسجد الأقصى وفي شرايين فلسطين.
عرفت منابر أم الفحم ومدن أخرى الشيخ رائد صلاح خطيبا فصيحا يهز القلوب ويحرك فورة النضال في النفوس، وقد كانت كلماته المدوية وشعاراته الإسلامية والوطنية ورؤاه في بناء ما سماه المجتمع العصامي ركنا أساسيا في بناء وتعزيز الهوية الإسلامية والعربية لفلسطينيي الداخل الذين يواجهون أكثر من حصار وأكثر من وسيلة ضغط وتخويف، ومحاولات لتجريف الهوية والأرض والتاريخ والمقدسات.
عرف الشيخ رائد صلاح السجون باكرا، حيث دخل المعتقل سنة 1981 بتهمة الارتباط بمنظمة أسرة الجهاد، وبعد خروجه من السجن وضعه الاحتلال تحت إقامة جبرية تفرض عليه عدم مغادرة أم الفحم نهارا، وعدم الخروج من بيته ليلا، مع الالتزام بإثبات وجوده يوميا لدى مصالح الأمن الإسرائيلي.
في العام 1998 قاد الشيخ رائد صلاح ما عرف لاحقا بأحداث الروحة التي اقتحمت خلالها الشرطة الإسرائيلية مدينة أم الفحم، وشنت عملية دهم واعتداء مروع أصيب أثناءها أكثر من 600 فلسطيني بجراح متفاوتة.
وفي سنة 2000 حاول القناصون الإسرائيليون اغتيال رائد صلاح بإطلاق الرصاص على رأسه مباشرة، لكنه نجا من الموت الذي لم يرهبه أبدا ولم يتخذ دونه حاجزا.
في سنة 2002 قررت إسرائيل انتهاج سياسة جديدة مع الشيخ رائد صلاح بعد أن استطاع نقل قضية الأقصى إلى آفاق دولية أرحب، وتفعيل مؤسسات إعمار المقدسات، فقررت وزارة الداخلية منعه من السفر خارج البلاد، وذلك بناء على ما اعتبرته معلومات أمنية من جهاز الأمن العام الشاباك.
ولم يكن مفاجئا أن المحكمة العليا الإسرائيلية تناغمت مع شاباكها، ورفضت الالتماس الذي تقدم به الشيخ رائد صلاح لتمكينه من حق السفر.
ومع منع رائد صلاح من السفر، حاولت الداخلية الإسرائيلية أيضا منع صوته الإعلامي والثقافي، فأصدرت في نفس السنة أمرا بإغلاق جريدة صوت الحق والحرية الصادرة عن الحركة الإسلامية لمدة سنتين، وذلك بناء على طلب من الشاباك وبتنسيق وتكامل مع رئيس الحكومة الإسرائيلية.
واصل الإعلام والمخابرات الإسرائيلية التحريض على الشيخ رائد صلاح وتصويره على أنه الخطر الماحق الذي يهدد إسرائيل بالزوال، فاعتقل في 2003 ثم أفرج عنه بعد سنتين من الحبس التحكمي سنة 2005.
ولم تطل فترة الحرية والنضال خارج السجن حتى عاد الاحتلال من جديد إلى اعتقال الشيخ سنة 2007 أثناء قيادته لاعتصام فلسطيني ضد الحفريات الإسرائيلية على طريق باب المغاربة في القدس الشريف.
وفي 2009 اعتقل الشيخ رائد صلاح، ثم أفرج عنه مع منعه من دخول المسجد الأقصى أو الاقتراب منه، وكان ذلك أقسى عقاب يناله الشيخ الذي عرف الأقصى، وشغفته قبابه ومحرابه ومناراته الفارعة.
في 2010 كان للشيخ رائد صلاح موعد آخر مع السجن، من خلال حكم قضائي بسجنه تسعة أشهر، وفي السنة ذاتها كان أيضا على موعد مع محاولة اغتيال أخرى، إثر اقتحام قوات إسرائيلية لأسطول الحرية، فقد كان الشيخ من ضمن ركابه الذين تجمعوا من دول عديدة حاملين أشواق السلام وترانيم الحرية من أجل كسر الحصار الجائر على غزة.
في 2011 اعتقل الأمن البريطاني الشيخ رائد صلاح بناء على شكاوى من منظمات مؤيدة لإسرائيل في بريطانيا، ثم أفرج عنه منتصف العام ذاته، بعد أن أمضى عدة أشهر في سجن الدولة التي أطلقت مأساة فلسطين عبر وعد بلفور.
وفي 2013 صدر عليه حكم بالسجن لثمانية أشهر بتهمة التحريض على العنف والكراهية، وهو الحكم الذي جاء دون ما سعى إليه الادعاء الإسرائيلي الذي طالب بسجنه أربعين شهرا.
في 2017 بدأت قصة أخرى من قصص الشيخ رائد صلاح مع السجون، حيث اعتقلته السلطات الإسرائيلية لمدة 11 شهرا من السجن والعزل الانفرادي، ثم أفرج عنه وفرض عليه سجن منزلي طويل المدى.
ثم نال بعد ذلك حكما آخر بالسجن 28 شهرا، وقد بدأت عمليا في 16 أغسطس/آب عام 2020، وذلك بعد أن رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية كل الاستئنافات التي تقدم بها الشيخ رائد.
لم تثن السجون من عزيمة الشيخ رائد صلاح، ومن بين لهبها وقيودها ألف كتابه “زغاريد السجون” في تغريبة جديدة من ترانيم الألم والنضال، وأهازيج الشهادة والصمود الفلسطيني.
بذل الشيخ رائد صلاح وقته وماله وآماله من أجل المسجد الأقصى وقضية فلسطين، وطاف العالم معرّفا بقصة المسجد ومعرّيا لجرائم الاحتلال، يقف في ساحة الأقصى يحاور السائحين، ليشرح لهم بأنهم يقفون على أرض فلسطينية لم يبعها ولن يتنازل عنها أبناؤها، يحدثهم عن جرائم الاحتلال وعن فظائع المستوطنين وعن قدسية الأقصى.
يقف بقامته الفارعة وبصوته الجهوري في وجه جرافات الاحتلال، وهي تحاول تجريف مداخل الأقصى وحفر هيكلها المزعوم تحت أسس البيت المعمور.