الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس..مسيرة اللد الاستفزازية (1)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
صبيحة يوم الأحد المنصرم، قام النائب اليميني المتطرف ايتمار بن غفير ومجموعات من الكهانية والدينية الصهيونية الحاريدية، باقتحام المسجد الأقصى المُبارك تحت حماية شرطية مشددة، وفي ذات اليوم، قاد هذا النائب مسيرات استفزازية في مدينتي الرملة واللد كذلك الأمر تحت حماية شرطية وأمنية مكثّفة، سبقتها ضجة إعلامية سواء من الإعلام شبه الرسمي أو الخاص، وكلّها تجنّدت لمصلحة إنجاح هذه المسيرة التي أغلقت فيها الشرطة شوارع لتمر منها المظاهرة، وذلك لما أسماه بن غفير، التمكين اليهودي في المدينتين.
بعيدا عن الدور الوظيفي الذي تقوم به هذه المجموعات الكهانية ومعها الحاردية الصهيونية الاستيطانيتين، فإن المؤسسة الإسرائيلية تمارس اخلاق استعمارية “كولونيالية” في ثوب جديد قديم، يُذكرنا بأخلاق الاستعمار الفرنسي في الجزائر الذي عرَّاه عديد المفكرين وعلماء الاجتماع وفي مقدمتهم الثائر الطبيب فرانز فانون، الذي كشف غايات استعمال الاستعمار الفرنسي الاحلالي في الجزائر للبيض الفرنسيين المتطرفين في جرائم الحرب التي ارتكبت وفي تدعيم وجوده هناك عبر هذه المجموعات المتطرفة.
تشكل المجموعات الكهانية التي تسلقت ظهر التيار الديني الصهيوني وتماهت مع مواقفه التوراتية وتغلغلت إليه، وتقود اليوم ومجموعات الحاريدية الصهيونية رأس حربة المواجهة والإعداد لها مع ساكنة البلاد الفلسطينيين 1.54% من المجتمع الإسرائيلي (يشكلون 7% من مجمل التيار الديني الصهيوني الذي يشكل وفق أبحاث ودراسات صادرة عام 2014، 22% من المجتمع اليهودي في البلاد)، وهذه الفئة الصغيرة جدا كما يبدو تلعب دورا مركزيا في الإعداد للمواجهة القادمة مع الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وتحديدا في الداخل الفلسطيني، خاصة إذا ما فكّكنا تصريحات كبار رجال الجيش والشرطة والأمن وما تقوم به هذه السلطات من أعمال في البلاد.
تستعمل إسرائيل “الكولونيالية” كافة الأدوات التي تملكها لتحقيق المزيد من السيطرة على الداخل الفلسطيني وعموم الوجود الفلسطيني، ولا تستثني وسيلة مهما كانت، سايبرية أو تقنية أو علمية أو بشرية، وبات واضحا أنّه في عهد نتنياهو ومن ثم عهد نفتالي بينيت، فإنّ المجموعات المتطرفة قد دخلت على الخط السياسي، سواء بعد أن تغلغلت في حزب الليكود الحاكم وعمليات الغزل السياسي التي مارسها نتنياهو مع هذه المجموعات، أو من خلال تمددها الطبيعي- البشري والسياسي في المستوطنات وتحصلها على ملايين الشواكل ساعدتها على تعزيز وجودها الكولونيالي كحامي للوجود اليهودي أو ضمن حسابات نفتالي بينت السياسية المستقبلية والراهنة، فقد باتت هذه المجموعات تحدد المشهدين السياسي والاجتماعي- السياسي في جدل العلاقة مع الفلسطيني، إنسانا فردا ومجتمعا.
هذه المجموعة يبدو لي أنّه يتمّ استعمالها سلطويا لتحقيق غايات استعمارية، إذ لا تزال “إسرائيل” تفكر وتمارس سياسات كولونيالية، فالسلطة الإسرائيلية تمنح هؤلاء “الغُزاة” للمدن الساحلية كمقدمة للزحف على الجليل والنقب والمثلث، أدوات العنف لممارسة وجودهم الاستعماري، وتدعمهم مرتين، الأولى ماديا وماليا لتحقيق الوجود، والثانية قانونية في حالة ارتكاب جرائم على غرار جرائمهم في المدن الساحلية مؤخرا، وقتلهم الشاب موسى حسونة وحماية وزير الأمن الداخلي السابق أمير أوحانا لهؤلاء والتصريح أنّهم ظهير لأجهزة الامن “تصريح يحقق مشروعية كينونتهم الوظيفية” التي يمارسونها، وهذا بحد ذاته يضع علامات سؤال حول معنى الوظيفية في السياق الاحلالي الكولونيالي الصهيوني- الإسرائيلي- اليهودي.
إنَّ مراكمات العلاقة بين أصحاب البلاد وهؤلاء الكولونياليين تشير الى أصحاب البلاد الشرعيين، رغم ضآلة ما يملكون من إمكانيات إلا أنَّ روح الوحدة والتضامن وممارستها على أرض الواقع في لحظات التحدي المفروض عليهم، تكون جليّة وواضحة، إلى درجة تستفز المُستَعمِرْ وتدفعه لمدارسة تلكم الحالة لمواجهتها، ظنّا منه أنّ هذا المستَعمَرْ سيفاجأ من مخططاته وممارساته التي تتسم بهذه الحالة بالعنف المفرط، مستعينا بأدواته التقنية والبشرية (منها الجيش وفقا لما تم من تدريبات عسكرية في منطقة أم الفحم مؤخرا، وإعادة احتلال المدينة في حالة انتفاضة ثانية على غرار هبة الكرامة). وبين هذه الحالة وتلك التي ينتظر فيها هذا الكولونيالي اللحظة القادمة للانقضاض على فريسته، تتم عملية شحذ مستمرة تتسم بالطلائعية لأولئك الذين يشكّلون في راهن السجال الحالي مع المُستَعمَرْ رأس الحربة الميدانية (انظر البرنامج التحقيقي الذي عرضته القناة 13 يوم الاثنين، في النشرة المسائية المركزية حول المجموعات الكهانية ومخططاتها لأهل اللد والرملة)، ولقد رأينا جانبا منها في مظاهر ممارساته الاستفزازية يقودها المتطرفون الذين سيكون لهم الدور الأساس في عملية مستقبلية تُهيء الأرضية لتدخل سلطوي يتسم كما ذكرت بالعنف المفرط الذي سيصيب بعض رذاذه بعض من المتطرفين.
مجتمع يتجه مُرغما نحو التطرف والشعبوية..
لا يمكننا أن نبعد هذه الأعمال الاستفزازية التي تجري يوميا في المسجد الأقصى المبارك والمدن التاريخية الساحلية عن الحالة الشعبوية السياسية التي تمر بها المؤسسة الإسرائيلية وعموم المجتمع الإسرائيلي، الذي أضحى سياسيا في دائرة خارطة اليمين في مواقفه السياسية المتعلقة بالآخر الفلسطيني، كما لا يمكننا فصل هذه الأعمال الاستفزازية من حيث التوقيت والمكان، بما جرى في أيار/مايو من هذا العام، في أحداث هبّة الكرامة، حيث راكمت عمليات الاستفزاز في المدن التاريخية الفلسطينية الساحلية عمليات “ضغط الطنجرة” لتكون شرارة الانطلاق من المسجد الأقصى المُبارك وليتوحد الكل الفلسطيني لأول مرة في تاريخه منذ اضراب عام 1936.
المجتمع الإسرائيلي، يكاد يكون المجتمع الوحيد في العالم إذا استثنينا مجموعات طائفية في الدولة الانجلو سكسونية ذات القيم البروتستانتية يقارب عددها البشري المستوطنين في بلادنا، الذي يتعرض لضخ إعلامي مستمر يجعله يعيش حالة دائمة من الخوف مما يحيط به، رغم عمليات التطبيع الجارية على قدم وساق منذ سبعينيات القرن الماضي، والتي قلبت المعادلات في منطقتنا رأسا على عقب، ومنحت الكيان الإسرائيلي برسم وجوده الكولونيالي فرصة تاريخية ليصبح جزءا لا يتجزأ من المنطقة، ولكن المشروع الصهيوني برسم دوره الاستعماري الوظيفي، لا يمكنه إلا أن يدفع بيهود البلاد ليكونوا جزءا من المنطقة، اندماجا وعيشا، إذ مهمتهم تتقاسم والمشروع الاستعماري برسم الحالة الاستعمارية التي تفشت في هذا المشروع منذ دخل على خطوطه الأمامية هرتصل والمدرسة الصهيونية الألمانية المتأثرة من الفكر النتشوي، لتستحيل حالة استعمارية ووظيفية تتداخل مع الصليبية الدولية التي تقودها منظمات متعددة من خلف البحار، ولذلك تأتي هذه المسيرة الاستفزازية ضمن ضخ أيديولوجي يخدم مرحليا ولحظيا فئات صهيو-دينية بعينها، ويؤجج الحال نحو دفع قادم لمواجهة لا يمكننا اللحظة توقع مداها وتداعياتها، لكنّ معالمها القادمة لا تبشر بخير قط.
هذه المسيرة الاستفزازية جاءت لإعادة الاعتبار لليهود الساكنين في المدينة وتحديدا من المستوطنين الذين تمَّ استقدامهم من الأراضي المحتلة عام 1967 خصيصا للقيام بمهام “وطنية وقومية” تحقق الغالبية اليهودية المادية والبشرية والثقافية في المدينتين خاصة بعد فرار مئات الأسر من هذه المجموعات من مدينة اللد بعد وفي ظل هبة الكرامة.
لقد كنت أشرت في مقالاتي السابقة إلى أنّ المؤسسة الإسرائيلية ترى في التيار الديني الصهيوني حامل لواء التهويد والمُحافظ على يهودية الدولة، واليوم تقوم هذه المجموعات على اختلاف نسبة تطرفها الديني-السياسي، بإتمام ما قامت به الحركة العمالية المبامية والمباية من عمليتي التخلية -الاخلاء- والإحلال، فهي بهذا المعنى الاستيطاني الاستعماري “الكولونيالي” تكون مكملة لمسيرة ما بدأت به الحركة الصهيونية العمالية العلمانية، ولكن هذه المرحلة بثوب ديني صهيوني، ولعل الارتفاع المستمر بنسبتي التدين الشعبي والانعطاف نحو اليمين من دلائل هذا التوجه الأيديولوجي الساعي لتحقيق المعنى السيادي السياسي والجغرافي والديني والذي يبدو أنّه لمَّا يتحقق بعد.