ولكن كل ربيع يبدأ بزهرة
الشيخ كمال خطيب
المرحوم البروفيسور نجم الدين أربكان والذي يعتبر بحق مؤسس الحركة الإسلامية في تركيا. ولقد صدق من قال: “إن أربكان حرث وزرع ثم جاء تلميذه أردوغان فحصد ما زرعه أربكان” لتستفيد تركيا وشعبها من اليد المباركة وما زرعته.
لقد تشرفت بلقاء المرحوم نجم الدين أربكان مرتين في عامي 1994 و 1995 حينما شاركنا في مهرجان ذكرى فتح القسطنطينية الذي كان يقيمه رحمه الله يوم 5/29 من كل عام. وأما المرة الثالثة فقد تشرفت برئاسة وفد من أبناء الحركة الإسلامية لتقديم التعازي بوفاته رحمه الله وقد انتقل الى رحمة الله يوم 2011/2/27، وكان في استقبالنا ابنه الوحيد محمد الفاتح وعدد من قيادات حزب السعادة في بيت المرحوم في أنقرة.
لست في معرض الحديث عن مسيرة حياته المباركة رحمه الله، ولكنها أربع عبارات كان رحمه الله كثيرًا ما يرددها وتناقلتها عنه ألسن تلاميذه وكتبتها أقلامهم، وها أنا أكتبها في مقالتي هذه لنظل نرددها على ألسنتنا لما فيها من خير عظيم ونفعٍ عميم.
ولكن كل ربيع يبدأ بزهرة
لصعوبة الظرف الذي وُجِد فيه أربكان وهو يواجه تيار العلمانية الجامح، الذي قام على إسقاط دولة الخلافة العثمانية، وكان يقوده مصطفى كمال أتاتورك، هذه العلمانية التي سلخت الشعب التركي عن دينه وعن تاريخه معلنة حربًا ساخرة على الإسلام وتعاليمه ورموزه منذ نشأتها وصولًا إلى بداية ستينيات القرن الماضي، حيث بدأ المرحوم أربكان بنشاطه السياسي من خلال هويته الدينية الإسلامية، فكان بعض المخلصين معه ممن يرون الواقع الصعب والقبضة الحديدية التي يحكم بها الجيش لحماية العلمانية، ولسان حالهم يقولون له: أنت مثل زهرة في صحراء قاحلة، وأنت في بحر متلاطم الأمواج، وأنت في غابة وحوش. في إشارة إلى سوداوية الظروف واستحالة التغيير، وأنه ورغم كل الصدق والخير والنية الصادقة عنده في خدمة الدين لكن ماذا سيفعل في هذا الواقع. فكان رحمه الله يجيبهم بثقة وتفاؤل كبيرين ورؤية بعيدة ويقين أنّ بالإمكان تغيير الحال إذا توفرت النية الصادقة والإيمان العميق والفهم الدقيق والعمل المتواصل. وكان يردد جملته التي يقول فيها: ” لا يكون الربيع بزهرة واحدة، ولكن كل ربيع يبدأ بزهرة”. نعم أن تفتح زهره في زمان غير تفتح الأزهار أو في مكان ليس فيه أزهار بالعادة هذا ليس معناه أن فصل الربيع قد حان وقته، ولكن في المقابل فإن فصل الربيع حيث تتفتح الأزهار وتغني الأطيار وتبعث الشمس إشعاعها، ليملأ الأرض دفءًا وأنسًا فإنه يبدأ من زهرة واحدة تتفتح في مكان في أرض الله ثم تكون زهرات بعدها بساتين وجنان، هو الربيع في أجمل حلّة وأبهى لوحة.
لكأني بالمرحوم أربكان يريد أن يقول لنا: لتكن أنت الزهرة الأولى بادر ولا تنتظر غيرك، كن أنت الزهرة الأولى في فصل الربيع، وكن أنت الشعاع الأول لشروق الشمس، وكن أنت القطرة الأولى التي تصل الأرض من السماء، كن أنت من السابقين خيرٌ من أن تكون من اللاحقين.
ابدأ بنفسك وادع غيرك، هكذا قال الأستاذ حسن البنا الذي طالما أشاد نجم الدين أربكان بفكره وشمولية جماعته ” الأخوان المسلمون “. وإذا كان الصينيون قد قالوا في حكمتهم الشهيرة: ” إن مسيرة الألف ميل تبدأ من خطوة ” فكن أنت من يخطو أولا. وقالوا: ” لا تسب الظلام ولكن أوقد شمعة” فكن أنت موقدها الأول. ليس المطلوب أن تتمنى العيش في بستان مليء بالأزهار، بل كن أنت زارع الزهرة الأولى. ولا تتمنى أن يتغير المجتمع نحو الأفضل، فكن أنت أول من يتغير. ولا تتمنى أن يعلو صرح الإسلام، ولكن اجعل نفسك اللبنة الأولى.
كن الفرامل بل كن الدينامو
قال المرحوم البروفيسور نجم الدين أربكان: “المسلم يجب أن يكون ماكينة لدفع الخير والحق ونصرته، ويجب أن يكون فرامل لكبح جماح الشرّ ومواجهته”. بهذه العبارة الرائعة المستوحاة من اختصاصه كونه بروفيسور في علم الميكانيك، يريد القائد الفذ أن يربي جيلًا يكون عماد التغيير ويكون الفرد منه مسلمًا حقًا وبكل ما تعني الكلمة من معنى. فالمسلم يجب أن ينتصر للحق وأن يهب للإسلام كل ما يملك {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} آية261 سورة الأنعام. إنه الذي يبادر لنصرة الحق ورفع رايته، يفعل ما فعل الرجل الصالح { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} آيه 02 سورة يس.
نعم إنه في الوقت الذي يتطلب منه أن ينصر الحق ويرفع رايته فإنه يفعل، وحينما يتطلب الأمر منه أن يواجه الباطل ويتحداه وهو يعتز بإيمانه فإنه كذلك يفعل، وهكذا يكون دوره كما فعل وأدى الدور في اللحظة المناسبة مؤمن آل فرعون {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يكُ كاذبًا فعليه كذبه، وإن يكُ صادقًا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف مرتاب} آية 04 سورة غافر. إنه الذي جاء من بعيد ليواجه أهل الباطل الذين أرادوا قتل رسول الله موسى عليه السلام الذي جاء يدعوهم إلى الله سبحانه، إنه كان الفرامل التي واجهت الباطل وتحدته وأوقعت مشروعه في قتل نبي الله موسى عليه السلام، مثلما كان الأول الماكينة التي دفعت وناصرت النبيين وهو يقول لقومه اتبعوا المرسلين، هكذا المسلم يكون مثل الغيث حيثما وقع نفع، إنه لا يكون إمعة ولا ريشة في مهب الريح، إنه ليس مجرد رقم بل الرقم الصعب، إنه لا يكون حجرًا في بناء بل هو حجر الزاوية، إنه ماكينة ودينامو يدفع الحق ويمده بالقوة والطاقة، وإنه حينما يتطلب المواجهة والتحدي للباطل فإنه يتحول إلى فرامل تكبح جماح الباطل ولسان حاله يقول:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمي يا هذه الدنيا بدين المسلم
وأنا البريء من المذاهب كلها وبغير دين الله لن أترنم
فلتشهد الأيام ما طال المدى أو ضمّ قبري بعد موتي أعظمي
إنّي لغير الله لست بعابدٍ ولغير دستور السما لن أنتمي
إياك والعيش وحدك ولنفسك
يقول المرحوم البروفيسور نجم الدين أربكان: “في طريق الدعوة لا يعيش أحدنا لنفسه، بل يعيش لخدمة الآخرين “.
إن الأنانية من(أنا) هي حالة مرضية، إنها التي تسببت في طرد إبليس من الجنة، وإنها ليست حب الذات والاستعلاء على الآخرين بل إنها يتمنى صاحبها أن تزول النعم عن كل الناس، ولا تكون إلا له يتنعم بها دون خلق الله، لكن الذي يسلك طريق الدعوة إلى الله سبحانه فإنه يصبح حالة وشخصية معاكسة تمامًا لشخصية الأناني. إن حامل لواء الدعوة في فهم أربكان الذي هو مستوحى من نصوص القرآن الكريم ومن سنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه ينسى نفسه ولم يعد يرى إلا الآخرين فهم شغله الشاغل وهمّه الكبير الذي ينصرف إليه بكليته ينفق ماله ويقضي وقته ويبذل جهده في سبيل ومن أجل هدايتهم وسعادتهم {ويا قوم لا أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} آية 901 سورة الشعراء {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} آية 95 سورة الأعراف، إنه ينادي قومه الذين يحبهم ويحرص على نجاتهم وإنه رسولنا وحبيبنا وقائد دعوتنا محمد صلى الله عليه وسلم والذي وبرغم إيذاء قومه له بكل صنوف الأذى، فكان يرد على من يقول له ادع عليهم يا رسول الله: فكان يقول إنني لم أبعث لعّانًا، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
إن حامل لواء الدعوة له هواية يستمتع بها كما يستمتع الناس بهواياتهم المفضلة ينفقون عليها أموالهم ويقضون بممارستها أوقاتهم، أما هو فإن غاية متعته وذروة سعادته عندما يسعد الناس وعندما يخدم الآخرين وعندما يدخل السرور على قلب مسلم أو أي أحد من الناس. إن سعادته الغامرة لما يرجع إلى بيته بعد نهار من البذل وبعد ساعات في ميادين خدمة الدين والمجتمع يظهر أثرها في تعب يجده في رجليه، لكنها ضالته التي طالما يبحث عنها ومتعته التي لا تضاهيها متعة.
إنّ حامل لواء الدعوة أوقف نفسه لله. فكما يوقف أحد الناس قطعة أرض لصالح المسجد أو مشروع خيري فإنه لا يصح استخدامها إلا لذلك المشروع، أما هو فإنه قد أوقف نفسه لله فكل نفس يتنفسه وكل لحظة يقضيها وكل خطوة يخطوها، هي ليست إلا لله ولخدمة دينه والقيام بواجب عباده. إن هذا ليس خيالًا ولا هو ترف في الأمنيات، وإنما هي حالة يعيشها الصادقون المخلصون الذين نذروا ووهبوا أنفسهم لله رب العالمين.
احلق يا حلّاق
قال المرحوم البروفيسور نجم الدين أربكان: “إن الحركة الإسلامية مثل شعر الوجه، كلّما حلق نبت أقوى مما كان”. لقد قال هذه الكلمة الرائعة والعبارة قوية الدلالات والمعاني يجيب بها على أسئلة بل يداوي بها الجراح النفسية والمعنوية التي أصابت إخوانه وتلاميذه وأبناء المشروع الإسلامي وهم يرون الحكومات العلمانية مدعومة بالجيش، وكلما أقام أربكان حزبًا للعمل من خلاله، فإنهم كانوا يقومون بحظره وإغلاق مؤسساته واعتقال كوادره ومصادرة أمواله وممتلكاته، وتكرر هذا أربع مرات طوال ثلاثين سنة من العمل السياسي كان أولها حزب النظام الوطني ثم حزب السلامة ثم حزب الفضيلة ثم حزب الرفاه وكان آخرها حزب السعادة والذي انفصل عنه تلميذاه رجب أردوغان وعبد الله غول وأسسا حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ العام 3002.
نعم لقد قالها المرحوم أربكان لأولئك الذين كادوا أن يصيبهم اليأس من هول ضربات العسكر ” الجيش” والمعسكر العلماني لهم وحربهم السافرة ضد المشروع الإسلامي مطمئنهم أن الضربة التي لا تقتلك فإنها تقوي ظهرك، لقد قال لهم بأن هذا المشروع وهذا الدين الذي لأجله قاموا بتشكيل هذه الأحزاب فإن الله يرعاه، ولطالما تعرض في التاريخ لحملات اجتثاث مغولية وصليبية بل وسبقتها حملة ردّة عربية أعقبت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الإسلام كان دائمًا يخرج من كل هذه الجولات أصلب عودًا وأكثر مضاءً وأقوى مراسًا.
وها هو المرحوم أربكان يقول لتلاميذه وإخوانه أن إغلاق حزبنا وحظره ومنعه لأربع مرات، كنا بعد كل مرة ننهض وقد نفضنا عنا الغبار فنقف منتصبين أقوى مما كنا. إن الحركة الإسلامية وإن المشروع الإسلامي مثل شعر الوجه كلما حلق فإنه سرعان ما ينبت من جديد وليعود أقوى مما كان عليه.
إننا نقولها اليوم وكل يوم لمن أعلنوا الحرب سافرة على المشروع الإسلامي مسلحين بشفرات حلاقة روسية كما في سوريا وشفرات أمريكية كما هو الحال في مصر والسعودية، بل وحتى شفرات إسرائيلية كانت دائمًا حاضرة في كل مكان عبر عملائها وأذرعها في مراكز الحكم والقرار في هذه الدول وعند تلك الأنظمة، إننا نقول للمؤسسة الإسرائيلية التي قامت بحظر الحركة الإسلامية تظن أنها الحلاقة الأبدية الماحقة، نعم إنني أقول لهم أن المشروع الإسلامي بعد كل حلاقة سينبت أقوى مما كان بل إن نموّه سيكون مفاجئًا ومذهلًا لكم يا كل هؤلاء.
يا هؤلاء، إن المشروع الإسلامي هو زرع الله وإن الصحوة الإسلامية هي زرع الله. ” إن جيلًا زرعته يد الله فلن تحصده يد البشر “، هكذا قال الشهيد سيد قطب رحمه الله وحامل الراية والشارب من نفس النبع الذي شرب منه المرحوم أربكان.
فاحلق يا حلّاق، إحلق أيها الحلّاق الإسرائيلي والأمريكي والروسي، احلقوا يا كل الحلّاقين العملاء في الرياض ودمشق والقاهرة وأبو ظبي، احلقوا مستعينين بمن شئتم فإن قدر الله غلّاب.
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني
النور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصمًا بحبل عقيدتي وأموت مبتسمًا ليحيا ديني
فأشهروا كل أسلحتكم، أخرجوا كل وسائل كيدكم، نفذوا كل مخططات كيدكم ومكركم الذي تزول منه الجبال وسترون أن مشروعنا سيفاجئكم أنه قد نبت أقوى مما كان، وأن يد حلّاقكم أقصر وأجبن، وأن سيف حصادكم أفشل من أن يحصد جيلًا زرعته يد الله.
فانتظروا إنا معكم منتظرون وإن غدًا لناظره قريب.
رحم الله قارئا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون