الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني؟ (12)
إعادة صياغة التاريخ
إعادة صياغة التاريخ
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
يذهب العديد من المؤرخين لتاريخ التيار الديني الصهيوني، إلى أنّ العديد من كبار حاخامات هذا التيار في المرحلة التاريخية المبكرة لتأسيسه وتكوينه (أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) لم يروَّا انفسهم صهاينة أو يتعاطفون مع الحركة الصهيونية (أنظر رؤفون جيفني في: المؤرخون الجدد بقبعات منسوجة- היסטוריונים חדשים בכיפות סרוגות- مجلة هشيلوح عدد23 ،2021) وبقيت آثار هؤلاء الحاخامات حاضرة في صفوف هذا التيار، وفي السنوات الأخيرة ثمّة استحضار لهؤلاء الحاخامات ليس من باب المناكفات مع التيارات الدينية المحافظة أو التأويلية أو الإصلاحية، بل من باب مواجهة التيار الصهيوني بكل مدارسه التنقيحية والإصلاحية والعمالية، برسم الحفاظ على اليهودية كتجليات قومية جامعة للشتات اليهودي الذي عاد من الدياسبورا، ولكن بقي متخندقا في “جيتواته” الخاصة داخل تجمعات مدينية في إسرائيل التي جاؤوها من أصقاع الأرض.
إنها محاولة جادة ولكنها صامتة تعمل بهدوء على إعادة رسم الخارطة السياسية لليهود في بلادنا، ليس على أساس علماني ديني، بل على أساس ديني خالص، متكئة في هذه العملية على الصيرورة التاريخية للحركة الصهيونية والدولة التي أقامتها والانتقال من العلمانية الخلاصية المُؤَسِسَةُ التي نادت بموت الإله (احتج العديد من زعماء الحركة الصهيونية العلمانية بعلمانيتهم المفرطة وإلحادهم بأن الرب- تعالى الله عمّا يقولون علوا كبيرا- لم يتدخل لحماية شعبه المُختار من الإبادة النازية وحرقهم بالأفران، وانعكست هذه النظرة الإلحادية على مجمل قادة الفكر الصهيوني العلماني الذي امتطى اليهودية ونقلها من الدين إلى القومية، وأسس على أساس من هذا المنطق دولته التي عزّزت قيم العلمنة التي تناقضت وتصارعت مع اليهود الشرقيين الأكثر تدينا ومحافظة وارتباطا بالقيم المُحافظة المؤسسة على الدين اليهودي، وهو ما استغلته قيادات الليكود الاشكنازية ونجحت في خلق تعاضد تاريخي مع هذه المجموعة نجحت بفضلها الوصول إلى سدة الحكم وانزاحت قيم المجتمع، من مجتمع علماني إلى مجتمع مُحافظ، ومع تمدد الشق الحاريدي ومن ثمّ الصهيوني-الديني، انزاح المجتمع الإسرائيلي إلى الدائرة المُحافظة- الدينية- العلمانية. ومذ عقد من الزمان انزاح المجتمع أكثر إلى الدائرة المحافظة- المتدينة مع تراجع ملحوظ في العلمنة بمعناها الكامل، فقد أضحى الكثير من العلمانيين يقومون بممارسات دينية مثل الصلاة يوم السبت وصوم يوم الغفران والتماهي مع أعياد دينية، ثم حدث منذ عام 2013 تعزيز قوي لترسيخ المعاني الدينية في المدارس الإسرائيلية غير الدينية، وهو ما يعني تقريب الأجيال القادمة نحو هوية دينية خلاصية تؤكد البُعد الخلاصي فيها، مُمَثلا بإنشاء الهيكل الثالث الذي تقف جموع المسلمين في الداخل الفلسطيني ضده مُطلقا رافضة مجرد طرحه، باعتبار أنّ المسجد الأقصى حق خالص للمسلمين، وهو ما يجعل الموضوع عابرا للقوميات والايديولوجيات.
وبتحقيق هذا الهدف “هودنة” الأجيال اليهودية، أي تديينها، تقترب الحركة الصهيونية من الحلقة الأخيرة مستعينة بالتيارات الحاريدية بتحقيق الهوية اليهودية الخالصة للدولة، وجعل الحكم فيها مبني على الشريعة اليهودية وتقديم اليهودية معنى ولفظا وممارسة على الديموقراطية. وهي بمساعيها لتحقيق هذه المهمة لا ترعو عن تضخيم العداء للفلسطيني في ربوع فلسطين من باب تعميق الخوف من الآخر للتعلق بهم فكرا وممارسة.
اليهودي الجديد..
معلوم أن الراب كوك تبنى مبكرا، خلافا لحاخامات الارثوذكسية الدينية، عدم مواجهة التيار الصهيوني العلماني للانخراط بهذا التيار والعمل من داخلهم على إحداث تغيير داخلي عبر تبنيه القومية اليهودية الجديدة، لضخ روح جديدة حيّة فيما أسماه الجثّة الهامدة، أي الحركة الصهيونية التي أقامها هرتصل، وهذه العملية الكوكية (نسبة للحاخام كوك) لم تتوقف للحظة في تاريخ الصهيونية الدينية، وقد سعى الراب كوك لضم التيار الصهيوني العلماني إلى داخل القومية اليهودية- الدينية، كجزء من عملية الخلاص والعودة إلى الذات اليهودية، التي يعتقد الراب كوك ومن جاء بعده أنه لا خلاص لليهودي الفرد والجماعة من دونها، أي من دون اليهودية كدين، ومن ثم كقومية، بل ذهب الراب كوك في تصوراته المطروحة حول الخلاص والخلاصية إلى أنّ العمل على عملية التذويت مع العلماني اليهودي، وإن كانت ظاهريا عملية خاطئة برسم أنّه لن يعود لليهودية كدين (التوبة-حزراه بتشوفا، חזרה בתשובה) بل سيبقى على ما هو عليه، إلا أن عملية الخلاص هذه التي سماها عملية إصلاح “تيكون-תיקון” هي بذاتها في حال قبولها من الطرف العلماني، تعني أنّ باطن هذا اليهودي طاهر وبالتالي فهو إلهي خلاصي، أي أنّها تتناسب والمنهج الإلهي المؤكد لعلوية اليهودي (أنظر نهاية الشتات والدولة اليهودية، المهدوية، الصهيونية والتطرف الديني في إسرائيل، تل ابيب 1997، ص16).
عملية إعادة القراءة التاريخية للحركة الصهيونية وإعلاء الدور الصهيو-ديني في الحفاظ على الذات اليهودية، لم يبدأ في العشرية الأخيرة رغم تعالي وارتفاع الأصوات المختلفة من هذا التيار لتأكيد هذه الحقيقة، خاصة بعد عام 2004 وشروع شارون، الأب الروحي والعملي للاستيطان في الضفة الغربية، بالتفكير والعمل على الخروج من غزة وشمال الضفة الغربية وتفكيك المستوطنات، باعتبار أنّه قارب نظريات العلاقة العملية للحركة الصهيونية العملية التي رأت بقيام إسرائيل والحفاظ عليها مهمة مقدسة فوق كل المهمات والتأويلات والتحليلات، وهو ما دفع مفكري هذا التيار لإعادة الرواية الصهيونية من وجهة نظرهم، برسم أنّهم يعتقدون أنّ الدور الأساس كان لهم في الحفاظ على الشخصية اليهودية حتى في سياقها العلماني، كما ذكرت آنفا، ولكن في السنوات الأخيرة، لم يتعزز هذا التصور فحسب، بل ثمّة توجهات متعالية داخل هذا التيار من المؤرخين شرعت بكتابة التاريخ من منطلق الرؤية والفلسفة التي دعا إليها الراب كوك وابنه، فهم يرون أنّ الحركة الصهيونية ما كان لها أن تحقق السيادة اليهودية على أرض إسرائيل، من دون المعتقد اليهودي الذي منحهم القوة والشجاعة لإعادة احتلال الأرض الموعودة، فالعملية لم تكن مطلقا مرتبطة بعوامل خارجية- أي استعانة الحركة الصهيونية بالعوامل الدولية والقوى العالمية لتحقيق قيام الدولة- بل بالعوامل الداخلية للشخصية اليهودية التي تخلصت من الشتات والعقل “الشتاتي”، ولذلك اعتبروا كل تنازل عن شبر من الأرض الموعودة المحررة الممتدة من سيناء إلى الجولان، هو نكوص صهيوني يعود للبراغماتية الصهيونية العلمانية، ولذلك تتم إعادة كتابة التاريخ من منطلقات مسيحيانية خلاصية ترى أنّ الأمم المحيطة بإسرائيل ومن يسكن عليها من غير “أبناء الله/ شعب الله المختار” القبول بهذه الحقيقة، حقيقة أنّ هذه البلاد من النيل إلى الفرات لهم ويعضدون هذه المقولة بما وصلت إليه بلادهم من قوة وهيبة عسكرية وأمنية، ويعتبرون على سبيل المثال لا الحصر، ما قام به نتنياهو من اختراق للعالمين العربي والإسلامي، عمل مُبارك يصبّ في مصلحة إسرائيل، الدولة والمجموعة اليهودية، ويعود الفضل بذلك ليس للدبلوماسية، بل بفضل القوة وأنَّ إسرائيل هي دولة الله باعتبارها تجل للمهدوية- في الرؤية اليهودية، التي قدّمها الراب كوك وابنه- وفي هذا يقول الحاخام حاييم دروكمان “الحاخام تسفي يهودا كوك هو الوحيد في جيله الذي رأى في إسرائيل الدولة رغم ما فيها من إشكاليات التجلي الحقيق لأنوار المسيح المخلص-المهدوية اليهودية- فهي، أي إسرائيل، دولة الله، ولذلك هي حققت الرؤية الخلاصية”. وبناء على ذلك، فهذه الخلاصية الإلهية تمددت ليس إلى الدولة الكيان فحسب، بل وإلى الوجود الرسمي المحدد، أي الوجود السياسي على هذه الأرض (جدعون يائير: من الصهيونية الدينية إلى الدين الصهيوني، ص224) ولذلك يعتبر التفاوض على شبر من هذه الأرض، مناف للخلاصية المسيحيانية من جهة وللإلوهية المتعلقة بالأرض والشعب، ومن هنا يمكننا أن نفهم الخلفية في تصريحات نفتالي بينيت، الرافضة مطلقا لقيام دولة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولذلك اعتبر العديد من المُنظرين للتيار الديني-الصهيوني الخلاصي، أن نفتالي بينيت ودخوله إلى رئاسة الحكومة أمرا في غاية الأهمية، بغض النظر عن الكيفية والماهية، باعتبار أنّ العملية تتم من خلال منطق التحولات الجاري في المجتمع الإسرائيلي: يميني أكثر وعنصري أشد، وللوصول إلى لحظة الحكم ثمة حاجة الى البراغماتية، دون التنازل عن الثوابت السياسية ذات البعد الديني-الأيديولوجي، ولعل تصريحاته المتعلقة بالدولة الفلسطينية تدلل على ذلك.
في المنظور الخلاصي اليهودي الخارج من مدرسة الراب كوك ومن أتباعه من التيار الديني الصهيوني، لا يمكن كتابة التاريخ وإعادة صياغته، بمعزل عن الهيكل الثالث كتطلع وتجل أخير في الصيرورات المتعلقة بدولة الإله، أي إسرائيل رغم علمانيتها ومؤسساتيتها اللحظية الآنية، فهذه الدولة التي قامت من خلال تعاضد أبنائها، كما ينظر دعاة هذا التيار، وليس كما ذكرت بمساعدة خارجية، يجب على أبنائها إتمام العملية حتى نهايتها عبر إقامة الهيكل الثالث، ليس باعتباره المقدس فحسب، بل وباعتبار إعادة القيمة والاعتبار لليهود واليهودية بعد شتات الآلاف من السنين وتأكيدا لإلوهية هذه الدولة الخلاصية، وهو ما يتطلب كتابة جديدة لهذا التاريخ- بالمناسبة عمر هذا التاريخ لا يتجاوز الـ 200 عام منذ ظهور بوادر التفكير اليهودي خارج صندوق الحريدية الدينية- من أجل الأبناء والاجيال القادمة وتأكيد المختارية للشعب اليهودي.
كتابة التاريخ اليهودي المُعاصر على أساس من الأيديولوجيا الخلاصية، تعتبر قضية حتمية في سردية هذا التاريخ، وبالتالي نجد صداها المُباشر في التجمعات الدينية الصهيونية في المدن الساحلية في الداخل الفلسطيني مثل عكا ويافا واللد، حيث تتَقوى هذه المجموعات بفضل السياسات الحكومية وضغط الجماعات والجمعيات ذات الصبغة الدينية الصهيونية، ويشارك في تعزيز هذه الهوية، الحاخامات والمدارس الدينية “اليشيفوت” مثل شبكة مدارس بني عكيفا وأريئيل وغيرها من المؤسسات والجمعيات.