الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني (10)
مسألة الوجود الحضاري
مسألة الوجود الحضاري
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
في عام 2020 كشف مركز بيو Pew Center Research للدراسات الاجتماعية والديموغرافية عن أن التقسيم الديني لليهود في البلاد، مشيرا إلى أنّ اليهود يشكلون 81% من التعداد العام للسكان فيما ينقسمون من حيث العلاقة مع الدين إلى أربعة مجموعات كما يبين الجدول التالي:
أضع هذه المقدمة بين يدي القارئ والقارئة لمحاججة مسألتي سطوة التيار الديني الحارديلي الذي بات يصوغ الحياة السياسية والمجتمعية والعلاقة مع الآخر غير اليهودي، وبالذات المسلم في هذه الحالة (يشكل المسلمون 14% من تعداد السكان العام و80% من مجموع السكان العرب في البلاد) على اعتبار أنّ المسلم في هذه البلاد هو صاحبها الشرعي والأخلاقي وقد تحول إلى أقلية بفعل عوامل خارجية لا تزال مفاعيلها قائمة وتهدد وجوده المعنوي والحضاري، خاصة إذا علمنا أنّ الدين في الحالة الإسرائيلية كما يتضح من الجدول ليس فقط مسألة علاقة وجدانية بل هو مسألة سياسية عند التيار الديني ومسألة حضارية عند المحافظين والعلمانيين.
حتى يحافظ التيار الديني بكل مكوناته ومدارسه على وجوده واستمراره بما في ذلك التيار الحاريدي والحارديلي، فقد عمدوا للعمل على ثلاثة محاور، التعليم الديني الرسمي، الفعاليات الاجتماعية والنشاط الاجتماعي لمجموعات الشباب والفتيات تحت سقف العشرات من المؤسسات التربوية والمجتمعية مستمدة أصول نشاطها في تعزيز القيم اليهودية وتذويتها مُبكرا، والانخراط في النشاط السياسي سواء في مواجهة السلطات الرسمية التي عمليا هي من تمول نشاطاتهم أو من خلال الاحتكاك المُباشر مع الجنود ومختلف قوات الأمن، باعتبارهم أولا أداة سلطوية “غير متدينة” تعمل على عرقلة تطبيق وتنزيل قيم الشريعة، وثانيا لقناعاتهم في ظل التربية الموجهة انهم- أي الجنود ومختلف القوات- جزء من الكل العلماني الحاكم “الدولة العميقة”، ولذلك سلكت هذه المجموعات ثلاثة سُبُل لخلخلة الراهن القائم على أساس من السيطرة العلمانية، وتمثل في التغلغل في الجيش ومختلف الفروع الأمنية والعسكرية، والتغلغل في المرافق المدنية للدولة، والوصول إلى أعلى المناصب الوظيفية الحكومية، والعمل على تأسيس شركات خاصة تخدم هذه المجموعة البشرية التي تمثل 22% من المجتمع الإسرائيلي و51% إذا أضفنا المجموعات المحافظة. ذكرت في المقالة السابقة أنّ التيار الديني الصهيوني الحاريدي عمل على جعل العربي المسلم تحديدا العدو المُشترك للكل اليهودي، وقد كشفت أحداث مايو/أيار من هذا العام، عن نجاحهم الكبير في هذه القضية، وهذا بحد ذاته يشكّل كسبا لهذا التيار في تحديد الهوية الحضارية، من خلال تحقيق نظرية المُغايرة القائمة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء (في حالة هذه المجموعات تتم الاحالات إلى العهد القديم وعهد الهالاخاة حيث يعتقدون أنه كانت لهم حضارة ودولة وسياسة وسيادة في الضفة الغربية والقدس وعموم فلسطين التاريخية حتى منطقة نهر دان في الجولان هذا فضلا عن الوعد الإلهي بأن بلادهم تمتد من نيل مصر حتى فرات العراق) وبهذه العقلية تتحقق معالم البُعد الحضاري المؤسس على هوية تم استجلابها من التاريخ السحيق، مهزوزة علميا وأثريا وتاريخيا، لكنَّ استحضارها مع وجود المسلم يستدعي مزيجا من الشوفينية (التعصب للذات اليهودية) والتي تجلت معالمها بوضوح في خطاب بتسالائيل سيمتريتش في الكنيست، ردًا على دعوة النائب منصور عباس رئيس الحكومة بينيت لخصم 100 مليون شيقل للطائفة الحاريدية حيث دعا نواب الأحزاب الحاريدية لرفض هذه المنحة بزعم انها ستعيدهم إلى عصر الذمة مستحضرا التاريخ اليهودي في جدل علاقته مع الأغلبية المسلمة، مزيفا التاريخ وموجها إياه لعقول وقلوب أبناء التيار الديني الحاريدلي الذي ينتمي اليه، باعتبار أنّ هذا التاريخ وتحديدا لليهود الشرقيين حمال أوجه باعتبار أنّه قد تمّ معاملتهم- كما يقولون- باحتقار بكونهم يهود وتم ذلك تحت بند الذمية، وهذا الاستحضار المرافق لعمليات ضخ لا تتوقف تتم في المدارس الدينية وأقوال الحاخامات، وما يتم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعي، يحقق عبر المغايرة، الوجود الحضاري المؤسس على قيم الدين والشريعة (الهالاخاة) نوعا شاخصا من القيم باعتبارها معتقدات وغايات وأشكال من السلوك لدى هذه المجموعة التي تنتظم علاقاتها البينية والجماعية تحت مظلات المؤسسات الدينية والحاخامات، وهو ما يحدد علاقاتهم مع الآخر العربي المسلم، الذي من خلاله تتشكل هويتهم الوجودية، وهو ما يخلق حالة دائمة من التعالي على الآخر، وبذلك ترسخ هذه المجموعات وجودها الحضاري عبر استحضار دائم للآخر المسلم وملاحقته، وتتعزز مكانتهم المجتمعية مع كل مواجهة مع هذا الآخر المسلم، كما حدث في شهر مايو/أيار الفائت، وهم بتلك المواجهة المباشرة أو/و غير المباشرة يعملون على تخليق أجيال تستمر في مهمة الحفاظ على الدين وعلى اليهودية كقومية وفي التداخل في قومنة الدين وتديين القومية، تكون اليهودية في محل انسياح مجتمعي مستمر يحقق علاقة بناءة مع الذات “اليهودية” أي كانت خلفيتها الأيديولوجية، وهم بذلك يشكّلون في هذه اللحظات مادة الوجود الحضاري لليهودي على هذه الأرض، مما يدفعنا إلى مربع التحدي بسياقه الحضاري وهو سؤال جدير بالاهتمام والحضور في ظل شتاتنا الراهن.