الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني (9)
الحاريديلية وخلق العدو المُشترك
الحاريديلية وخلق العدو المُشترك
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
يتصرف الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المحتلة عام 1967 بما فيها مدينة القدس، كأنها أملاك تمّ استعادتها، ويحاسب كل من تسوّل له نفسه مخالفة القوانين والإجراءات التي فرضها في تلكم المناطق، وهو يعلم يقينا أنه بعمله هذا يناقض وينابز الأمم المتحدة التي هي السبب القانوني لقيامه، لكنْ بكونه حالة استعمارية متقدّمة جعلت من الدين مادة متقدمة لتبرير وتفسير استعمارها من جهة، وتغولها من جهة أخرى، فإن الاحتلال الإسرائيلي يقوم بما يحلو له، لا يتحسب من صراخ محلي ولا دولي، ومع تقنينه قانون الإرهاب عام 2016 صارت الوصفة جاهزة لكل جسم أو مؤسسة لا تعجبه، إخراجها عن القانون، علما أنه لا يُعتدُّ بقوانينه في الأراضي المحتلة عام 1967 كما هو معلوم لدى علماء القانون الدولي والعلاقات الدولية، ومع ذلك تسمع إلى السياسيين والمحللين والمراقبين والإعلاميين، وتخال أنهم يتحدثون عن أراض منحتهم إياها الأمم المتحدة عام 1947 أو 1948.
ما كان للحركة الصهيونية العلمانية أن تقوم لها قائمة لولا عاملين متناقضين هما سر وجودها واستمرارها واستمرار إسرائيل من بعدها، الأول: فشل الليبرالية الأوروبية في إدماج اليهود الأوروبيين في المجتمعات الأوروبية وهو ما أدى إلى ظهور الصهيونية الهرتسلانية، والآخر العامل الديني، حيث أدرك دعاة هذه الحركة، أنه لا مناص لهم من توظيف الدين لتحقيق مبتغاهم المتعلق بالوجود اليهودي، ومن ثم فبعد أن قامت إسرائيل وتعززت باستمرار عبر عقود متتالية مكانة الدين والتدين في المجتمع الإسرائيلي، ومع قدوم الملايين من اليهود الشرقيين المحافظين، تأسست فيما بينهم ملامح تشكيلات دينية راوحت بين المحافظة والتطرف، تجلّت مخرجاته فيما بعد في الحركات الدينية الصهيو-حاريدية التي رفعت شعار الحفاظ على الأرض باعتبارها الجامع المُشترك للكل اليهودي الذي تقريبا لا يتفق على شيء بما في ذلك الأرض. ولتحقيق هذا الاتفاق بأوسع أفق ممكن، كان تأسيس مثل هذه الجمعية التي جمعت بين دغدغة عواطف اليمين الصهيوني العلماني ومخاطبة العقل اليساري العلماني في ثنائيات الحقوق ورمسها كحالة تعدد الزوجات بين العرب (علما أن اليهودية تبيح التعدد بإطلاقه..) وفرض القانون مقابل الفوضى (البناء غير المُرخص) وتتغاضى متعمدة عن السياسات الإسرائيلية المتراكمة التي تحول دون البناء المرخص مثلا، ولا تتعاطى مطلقا مع البناء غير المرخص في الأماكن والحيز اليهودي، مما يعني أننا أمام مجموعة مهمتها الأساس والحقيقية مطاردتنا وملاحقتنا لتصل بنا إلى حدّ الخروج من المناطق التي تعمل عليها، كما هو حاصل في النقب واللد ومناطق متعددة من الجليل، ولا تتورع بأن تُسَيرَ الدوريات في بلداننا العربية والمناطق “ج” في الضفة الغربية، بل ويتدخلون في مسارات العمل الحكومي ومعلوم دورهم في سن قانون كامينتس عام 2017، ومن تابعهم يرى حجم التحريض على القائمة العربية الموحدة لدورها في العمل على سنّ قانون ربط البيوت العربية في الكهرباء، وهذه المجموعة تقدّمت قبيل سنّ القانون بخمسة مقترحات كشروط لازمة لسن القانون.
وهذه الثقة السلطوية من أطراف اليمين منحت الحاخامات من المدرسة الدينية الصهيونية مزيدا من القوة والتشدد والجمع بين القيم الصهيونية ذات الأصول العلمانية الداعية للفوقية والعلو على بني البشر وخصوصا ساكنة هذه البلاد بزعم الوراثة الإلهية والصفوة المختارة، وهو ما لاقى دفعا وتوافقا دينيا ترجمه الحاخامات الحارديليون عبر لافتات تعتبر على سبيل المثال لا الحصر جمعية رغفيم واحدة منها ومميزة بحكم انها تُطاردنا نحن أصحاب البلاد سواء فيما يتعلق بالعمران أو التعامل مع البيئة أو حتى في مسائل تعدد الزوجات، ونشاطاتها الممولة من المؤسسة الإسرائيلية تغطي كل فلسطين عدا قطاع غزة، وهم إذ يقومون بتلكم الأعمال، نظنّ للوهلة الأولى أنها ذات معنى ديني أيديولوجي صرف باعتبار أنهم يحافظون على تراب وطنهم- ومن هذا الطين والتراب الذي يحافظون عليه استمدوا اسمهم- والحقيقة المُضافة إلى ما أشرت أنهم مستفيدون ماليا، فمئات ملايين الشواقل تتدفق إلى جيوب هذه المجموعات ومنها هذه الحركة/ الجمعية، ولذلك فالصراع بين ساكنة البلاد والوافد الصهيوني عمليا، ينتقل رويدا رويدا من طرفه العلماني الذي حكم البلاد، إلى الطرف الديني الصهيوني والحارديلي الذي يعمل جاهدا على تحقيق علويته وسيادته على هذه الأرض.
من المهم ونحن نسعى لفهم مسـألة حراستهم للمقدس الذي سيتضح لاحقا انه وهمُّ تمَّ اصطناعه في مختبرات الحاخامية الصهيونية، بعد أن دخلت في أزمات متتالية من العلاقة مع اليمين العلماني المحافظ الذي ارتضى مصالحة مع العرب والفلسطينيين، مخرجاتها النهائية لصالح إسرائيل (كامب ديفيد وإخلاء مستوطنة يميت في عهد بيغن وإخلاء مستوطنات غزة وشمال الضفة في عهد شارون) لكنّ التطرف الديني والتعاطي مع السياسة من منظور تفسيري للتوراة، يُقدمُ التفسير الحاخاماتي على النصوص، دفع ‘لى لحظة ميلاد جمعية رغفيم عام 2006، بعد إقرار الاخلاء من أراض اعتبرها هؤلاء الحاخامات أراض ” مقدسة” تمّ تحريرها ولا يجوز إعادتها للمحتل “العربي المصري أو الفلسطيني”.
العدو المشترك..
منذ أكثر من عقدين تعمل المؤسسة الدينية الحاريديلية ومعها لفيف من الحاخامات، على خلق مشترك للكل اليهودي بغض النظر عن هويته الدينية، ولا تخجل من الحديث عن عملها في النقب، ولتحقيق ذلك تغلغلت في كافة مرافق الحياة ذات الشأن والتأثير، من مثل جهاز التربية والتعليم، الجيش، والأكاديميا، لتحقيق مجتمع أكثر تدينا ومستفيدا من الإصلاح والحرية التي تحققها دولتهم الليبرالية ذات الرفاه الاجتماعي، وعملية التدين تسري ببطء في المجتمعات العلمانية، لكنها تتأثر في مسألة الوجود الفلسطيني، وهذه السياسات المتأثرة من الهاجس الديمغرافي، تعمل على تحويل الفلسطيني إلى عدو مستباح تحت رسم الإرهاب والدفاع عن الكل اليهودي في الدولة، ولذلك لا يتردد عديد النواب في الكنيست من المَشرب السياسي الديني المتشدد، اعتبارنا أعداء يجب التخلص منهم، وكذلك لا تتردد الحاريديلية، أن تعلن صباح مساء، أننا، نحن الفلسطينيون، الأعداء، بألـ التعريف، ولكنها لا تخفي امتعاضها واحتقارها من اليهودي العلماني، الذي في حقيقة الأمر تنفي عنه ابتداء يهوديته، بل وفي أحايين معينة تموضعهم معنا في خانة واحدة، ولأنها ظاهرة “داعشية” يهودية، فهذه المجموعة لا تتورع عن التصدي ومواجهة الشرطة والجيش والمخابرات، إذا ما حدث للحظة “ما” اصطدام مصالح، وفقا لتفسيراتهم لمعنى المصلحة. والملفت للنظر أنّ هذه المجموعة تلقى انفتاحا إعلاميا وتجاوبا في الشارع الإسرائيلي يكشف عن حقيقة العقلية الإسرائيلية وكيفية تعاطيها معنا كفلسطينيين، فهناك مجموعات هائلة تؤمن بضرورة الحل النهائي معنا، وفي هذه الصدد من الضرورة بيان أن هذه المجموعة نجحت في جعلنا العدو المشترك لعموم اليمين الإسرائيلي، وإذا علمنا أنّ أكثر من 85% يُحسب على اليمين، فنحن أمام مرحلة جديدة من الصراع مع الإسرائيلي، ستكون الأهم في أدواته، الدين والتحريض على أساس ديني، باعتباره الآن الانموذج الآخذ بالانتشار في الشارع الإسرائيلي، مهما كانت مدرسته ومعتقده.