الشاباك والمشاركة في لجم الـــجريمة والمعادلة الصفرية تساؤلات (3)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
ثارت ضجة كبيرة في الداخل الفلسطيني حول دخول الشاباك إلى قرانا ومدننا ونجوعنا، ضمن محاولات المؤسسة الإسرائيلية للجم العنف والجريمة في مجتمعاتنا المحلية، وارتفعت أصوات من بعض السياسيين الرافضة لهذا العمل، وكان موقف لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية واضحا في الرفض وتبريراته، فيما خفتت أصوات الباحثين والأكاديميين والمثقفين، وهو ما يحتاج حقيقة لمعالجات خاصة في فهم العطب الذي اعتور هذا النُخب- ليس جميعهم-، فضلا عن أننا بحاجة إلى تفكيك سياسي-اجتماعي-نفسي لبيئتنا المحلية لفهم أعمال العنف وضياع القيم الموروثة ومن يتحمل هذا الضياع في مجتمعنا.
ثمّة ضرورة شرعية وسياسية ووطنية لفهم التّحوّلات التي جرت ولا تزال في مجتمعاتنا وآثارها على ما نحن فيه اليوم.
استغلال الفرص
لم يكن الشاباك غائبا في يوم من الأيام عن مجتمعاتنا المحلية ومعلوم أنّ في كل بلد مُكلَفَّ أمني من الجهاز، أي أنه في كل بلد في داخلنا الفلسطيني هناك مسؤول عنها في جهاز المخابرات، بل البلدان الكبرى كمدينة أم الفحم، يتولى مسؤوليتها المباشرة أكثر من شخص، وبالتالي فالشاباك هو الجسم الوحيد المتواجد على مدار الساعة في بلداننا، ومن نافلة القول الإشارة إلى أنّ هناك عدد كبير من العملاء الذين يعملون له وتحت قبضته، وهناك العشرات من القصص حول كيف يعمل الشاباك لاختراق أجسام وهيئات وحركات ومنظمات، بل وعائلات كريمة، وعليه فهذا الجهاز لم يكن غائبا عن واقعنا المُعاش ويعلم تفاصيل كثيرة أكثر من أي جهاز آخر عن حيوات الناس، لكنْ ما يهمه هو البُعد الأمني ومن الطبيعي أنَّ كلَّ عمل يبعد الناس عن دوائر انتمائهم بالنسبة له شيء مبارك ويشجعه وفقا لأساليبه.
إذا كان الشاباك هو الحاضر- بألـ التعريف- في مجتمعاتنا، فلماذا هذا الإصرار على إدخاله في مسألة هو يعتبرها مدنية-جنائية وليست أمنية، ما يطرح العديد من التساؤلات حول دور وفاعلية الشرطة ومدى العطب الذي يعتور هذا الجهاز، هذا في السياق الإسرائيلي، أمّا في السياق المجتمعي الخاص بنا، فمعلوم أنّ دوائر المخابرات الشرطية تملك كمًّا هائلا من المعلومات حول أرباب الجريمة وعصابات الإجرام لكنها لا تُحرِكُ ساكنا. في هذا السياق خصصت حكومة بينيت 2.5 مليار شيقل أي ما يقارب 780 مليون دولار لمواجهة العنف والجريمة المنظمة، واعتبرت شخصيات نافذة أنّ العام القادم، سيكون عاما حاسما، خاصة في ظل الفشل الذريع للشرطة عن كشف الجرائم المتتالية في مجتمعاتنا، معتبرة أنّه إذا لم تحصل نتائج إيجابية في مواجهة الجريمة، فلن يحدث أي تغيير، والحق لو كنت مسؤولا إسرائيليا صاحب قرار لأعفيت الآلاف من الشرطة من الخدمة، ليس لأنهم لا يملكون الإمكانيات الكبيرة في ملاحقة العنف والجريمة، ولكن عديدهم متواطئ مع هذا العنف وهذه الجريمة، إذ هذا الجهاز يحتاج إلى نفض داخلي. عودة إلى الشاباك والعمل في الداخل الفلسطيني في ظل التصريحات الصادرة عن رئيسه الجديد المعني بدخول هذه الباب، خاصة أنّه كان من المسؤولين عن الداخل الفلسطيني في هذا الجهاز، مما يعني أنّه أقرب من غيره لهذا الداخل، فهل ستحركه فعلا مواجهة الجريمة المنظمة، أم أنها فرصة لإعادة النظر في التغلغل داخل مجتمع أضحت فيه الخدمة المدنية والعمل في السلك الشرطي مسألة طبيعية.
ثمّة حاجة أن نفهم القواعد الحاكمة للشاباك مع داخلنا الفلسطيني، الذي يعايش هذا الداخل عدد عقود من خلال ما يرشح من معطيات ومقولات تتعلق بالفلسطيني الفرد والمجتمع في الداخل الفلسطيني. تنطلق المؤسسة الإسرائيلية وعموم المجتمع الإسرائيلي من أننا نحن أبناء هذه الديار طابورا خامسا لا يمكن الوثوق به، ومن تابع البرنامج الوثائقي الذي بُثّ على القناة 12 للإعلامي الإسرائيلي آهود حمو، يتبين له حجم الرفض المجتمعي لنا كأصحاب هذه البلاد والمواقف المُسبقة اتجاهنا، والتي تتعزز باستمرار ضمن معادلات بناء الهوية الصهيو-دينية-علمانية، مترافقا مع تعزز مكانة وقوة اليمين الإسرائيلي والتيار الديني، والشاباك ليس بدعة عن مجتمعه، وإن خضع العاملين فيه لعمليات فرملة، إلا أن مهمته الأساس التاريخية التي ما زالت توجهه في التعامل معنا كمجموعة متبقية تم اقتلاع أهلها وتشريدهم، الضبط والمراقبة والتفكيك، ومن ثمّ فالشاباك منذ اللحظة الأولى كما ذكرت في مقالاتي السابقة مهمته الحيلولة دون تشكيل سياسي أو وطني مؤثر خارج سقف الكنيست، وحارب بشدة كل توجه مناهض ومُسائِل للوجود الإسرائيلي كحالة كولونيالية، ويعمل جاهدا على تذويت الوجود الإسرائيلي بين الناشئة والاجيال المختلفة، وربما ستكون هذه من أولويات الشاباك في السنوات القادمة، خاصة وأنّه مبدع في اقتناص الفرص واستغلالها، ولعل دخوله الناعم إلى مجتمعاتنا مع علمه الدقيق بها سيكون مرحلة جديدة في التجنيد والاختراق والتذويت.
تساؤلات
مواجهة الجريمة المنظمة بعد أن كشفت شخصيات نافذة في الشرطة، من أن بعضا من بيناتها تخدم الشاباك وبذلك يعتبر وجود الجريمة المنظمة ومن ثم العنف مسألة وطنية تصب في كسوبات الوجود الإسرائيلي وتثبيته، وهذا معناه أن الوجه الآخر للجريمة المنظمة، وجها عميلا ومعول هدم في مجتمعنا، فهل سيتنازل الشاباك عن هذه الواجهات التي تعمل بدلا عنه في إبقاء مجتمعاتنا تحت سيف الخوف والهلع والتفكير الذي لا يتوقف عن الأمن والأمان وتبعده عن كل تفكير وطني، وتقرب الدهماء أكثر من الدولة باعتبارها الجسم الأقوى القادر على حمايتها، هذا إلى جانب تحقيق نوع من الفوضى المجتمعية التي تدفع المجتمع إلى واحد من اثنين، الارتماء بأحضان هذه العصابات للحماية والعمل، أو المناكفة والمواجهة، ومن ثم وقوع المجتمع في فتنة قد تقارب الحرب الاهلية، هذا أولا، وثانيا، قد يلجأ العديد من المشتغلين بالشأنين السياسي والاجتماعي-المجتمعي إلى المؤسسة الإسرائيلية بشكل رسمي كما هو حاصل اليوم أو/و قد تتنامى بين صفوف العامة من الناس الميل النفسي للتعاطي مع الجهات الأمنية من باب الحماية.
والسؤال، إذا كانت الجريمة المنظمة تخدم الشاباك، فهل من مصلحته اجتثاثها أم أننا سنكون أمام تطور في أداء هذه المنظمات يستمر في تقديم الخدمات، ولكن بوسائل وأدوات مختلفة، أم أنّ هذه المنظمات قد اتمت مهمتها على أكمل وجه وآن الأوان للتخلص منها، أم أننا سنكون أمام مرحلة جديدة من العنف السلطوي يشارك فيه الشاباك مباشرة بعد أن كانت الشرطة وملحقاتها تمارس هذا العمل؟ وهل سنكون أمام مرحلة من موجات الاعتقالات لمختلف الشرائح، تمهيدا لفرض حكم عسكري ناعم وغير مباشر؟ وهل سنكون أمام توسع مضطرد لنظام استيطاني كولونيالي يدخل إلى مربعات جديدة في حيواتنا، ويعمل وفقا لأساليب وأدوات وخطاب مختلف عما عهدناه سابقا من أجهزة الدولة على اختلاف مسمياتها؟ أقدّم هذه التساؤلات وفي الخلفية أحداث هبة الكرامة وتداعياتها. الشاباك بدوره، لا يخفي في السنوات الأخيرة كما الموساد إعلاناته ودعواته لأبناء الأقليات الانتساب إلى هذا الجهاز، الذي يعمل ليل نهار على حماية المواطن الإسرائيلي، ومن المتوقع أن يعمل الشاباك بتسارع وجهد أكبر في ظل تدخله سواء المباشر أو غير المباشر في مواجهة الجريمة لتجنيد الشباب سواء من أولئك الذين اعتقلوا أو من عموم الناس.
في ظل التدافع القائم منذ أكثر من مئتي عام على هذه الأرض بين أصحابها الشرعيين من الفلسطينيين وكل الدُخلاء، ثمّة ثلاث حقائق رسمها التاريخ، بقاء الوجود الفلسطيني ورحيل المستعمر، ثبات الوجود الفلسطيني عبر منظومة من الأفكار والتصورات والطروحات دفعت لتعزيز الوجود الفلسطيني، على الرغم من هشاشة أدواته وإمكانياته، وأخيرًا، إن منطق المدافعة ما زال قائما يتجدد وبوسائل مختلفة وبخطابات مختلفة، وما يحدث مع وجودنا الفلسطيني اليوم، هو جزء من هذه الصيرورة التي لمّا تكتمل بعد، ومن ثمّ فكما قيل ربَّ ضارة نافعة، فعصابات الإجرام اليوم هي في جوهرها منظمات إرهابية تفرض نمطا معاملاتيا متساوقا مع القيم الليبرالية-الكولونيالية- الحداثية الإسرائيلية، وهذا هو صُلبُ المدافعة القائمة اليوم، والتاريخ خير شاهد، نستمد منه بعضا من الامل كما الواقع الذي نعيش، ولذلك، فالشباك ومن سيدور في فلكه يقوم عمليا بمهمة تخدم دولته، وهذا جزء من سنن التدافع التي نعتقدها، ويبقى السؤال، ما هي الأدوات التي يجب أن نجترحها لتحقيق أعلى نفع من هذه السنة الجارية في كسوباتنا نحن أبناء الداخل الفلسطيني، حتى نخرج من هذه المحن؟.