الشاباك والمشاركة في لجم الـــجريمة والمعادلة الصفرية.. الاختراق والتجنيد
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
السياسة الداخلية..
فور قيام دولة إسرائيل عام 1948 شرعت أجهزة الامن الإسرائيلية بتكوين شبكات من المخابرات والجواسيس داخل الأقلية العربية الفلسطينية التي لمَّا تستوعب حجم الكارثة التي لطمتها ولمّا تدخل بعدُ تداعياتها المدمرة، والهدف كما يبين هيلل كوهين في كتابه “عرفيم طوفيم” (عرب جيدون) كان الحيلولة دون التواصل بين العرب المتبقين في اسرائيل الناشئة وإخوانهم من الفلسطينيين المشردين واللاجئين، أو التواصل مع الدول العربية وخاصة أجهزتها الأمنية “المخابرات” والجيش والمخابرات، ووضع الشاباك (جهاز الأمن العام الإسرائيلي) نصب عينيه، السيطرة على المشهدين السياسي والاجتماعي، وذلك بمنع قيام أي جسم سياسي منبت عن الدولة وسقفها، وقاد هذه العملية الحكم العسكري وجهاز الشاباك وسعت مبكرا لاختراق المجتمع الفلسطيني الخارج من خسارة وجودية غير مسبوقة في تاريخه. عمليا، تم تجنيد عملاء فلسطينيين من الداخل قبل قيام إسرائيل وهؤلاء كان لهم دور كبير كطابور خامس في الهزيمة، واستمر دورهم بعد قيام إسرائيل، وقد كانت عملية التجنيد تتم تحت أشراف ضابط/ ضباط الحكم العسكري، وتشير بعض الوثائق إلى عملية منافسة بين الأجهزة الأمنية الثلاثة (المخابرات، الشرطة، الجيش) في اختراق المجتمع الفلسطيني المهزوم.
تدمير الشخصية العربية..
عملت إسرائيل من خلال الحكم العسكري على تدمير الشخصية العربية الفلسطينية وبالذات المسلمة، ذلك من خلال اختراقاتها المستمرة لهذه الأقلية من جهة واتخاذها سياسات مشددة للحيلولة دون الممارسات الدينية وسعيها لمنع قيام مؤسسة دينية تمثل المسلمين وتقودهم وتشكل حالة قوة، ولذلك فالحسابات الأمنية والسعي لإخضاع المسلمين باعتبارهم الأغلبية الساحقة المتبقية بعد قيام الدولة للرقابة المشددة، هي التي أسست السياسات الإسرائيلية الرسمية في جدل العلاقة مع المسلمين (مائير حاطينه ومحمد العطاونة: موسلميم بمديناة هيهوديم، מוסלמים במדינת היהודים- مسلمون في دولة اليهود، ص18)، وما زالت هذه السياسة قائمة إلى هذه اللحظات، وما إخراج الحركة الإسلامية عن القانون إلا من ضمن هذه النظرية الأمنية-السياسية.
في ظل غياب العلماء والقيادات الدينية والسياسية، تعرضت الأقلية العربية عموما وخاصة المسلمة لعملية علمنة موجهة من قبل المؤسسة الإسرائيلية، ولاحقا اتمَّ هذا الجور النخب الأكاديمية والمثقفة المتعلمنة التي تساوقت مع سياسات المؤسسة الإسرائيلية، كما تعرضت لموجات من القومنة العربية التي عصفت بالأمّة العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي حاربتها المؤسسة الإسرائيلية بشدة. بذلك فقد تعرضت الأقلية العربية في تلكم الفترة إلى عملية تشويه هوياتي سعت المؤسسة الإسرائيلية لتعميقه باستمرار، سعيا منها لخلق “العربي الإسرائيلي الجيد- هعارفي هيسرائيلي هطوف”، وقد كان للشاباك دورا عمليا تأسيسيا في هذا المجال سواء من خلال الرقابة المباشرة على المعلمين والمتعلمين، وتجنيد الطلاب وتجنيد العملاء في كل عائلة تقريبا وكل تجمع سكني أي كانت وضعيته.
شهدت العقود الثلاثة الأولى لقيام إسرائيل، عملا وتنسيقا وتدبيرا منهجيا من قبل النظام العمالي الحاكم وأذرعه الحزبية والمجتمعية مع الحكم العسكري (الجيش) والأجهزة الأمنية (الشاباك) والشرطة، هدف إلى زرع الخوف الدائم لدى الأقلية المتبقية بعد النكبة والحيلولة دون تأسيس فعل سياسي خارج عن سقف الدولة وهيئاتها، وتخليق مواطن عربي مُدَجَن، فالشاباك والحكم العسكري وأدوات السلطة المبامية مثل القوائم العربية والمخاتير وطبقة المثقفين المُدَجنة (التي تربى العديد منها في الكيبوتسات) سعت لخلق هوية عربية إسرائيلية إيجابية (هنيدة غانم، بناء أمة من جديد- المثقفون الفلسطينيون في إسرائيل، ص62). ولتحقيق هذه الغاية، فقد قام الشاباك والحكم العسكري في تلكم الفترة المبكرة من صيرورة الفلسطينيين بُعَيد النكبة، في استثمار حالتي الهلع والصدمة المنحدرة من النكبة ومفاعيلها، وذلك من خلال رصد كل فعل سياسي أو اجتماعي أو مجتمعي تربوي أو تعليمي أو ثقافي أو ديني، فعملت بقوة على تخريبه وملاحقة القائمين عليه، وعملت على الحيلولة دون تأسيس أو تشكيل أي جسم منفصل عن السياسة الإسرائيلية، أو ليس ذات صلة بها (أ.لوستيك، العرب في الدولة اليهودية: سيطرة إسرائيل على الأقلية العربية، ص130-135). ولإتمام هذه السياسة، فقد لاحق الشاباك مُبكرا كل من ظنّ أنّه يرفض ويعاند ويحاجج هذه السياسة، وكان في عين العاصفة، البقية المتبقية من المجاهدين من عهد القسام ومعارك عام 1947-1948 ونجح في اختراق بعضهم ونقلهم من ضفة المجاهدين الرافضين لمجرد الوجود الصهيو-إسرائيلي إلى العمالة بكل معانيها (انظر: هلل كوهن، عرب جيدون، النسخة العبرية). لقد عمل الشاباك منذ قيام إسرائيل وإلى هذه اللحظات، على الحيلولة دون بناء هوية عربية فلسطينية، واعتبر في ثمانينيات القرن الماضي، دخول البُعد الإسلامي كمكون لهذه الهوية، خطر يجب التصدي له، باعتبار أنه أي الشاباك حارب التدين مبكرا في الداخل الفلسطيني، وعمل بصمت وبتوجيه مستمر على تغلغل قيم العلمنة إلى المجتمع المهيض الجناح، خاصة وأنه فقد في الأساس قيادته الدينية، في هذا السياق من الضرورة بمكان الإشارة إلى أنّ الاستشراق الصهيوني سواء ما كان قبل الدولة أو بعدها، رأى خطورة كبيرة جدا في الثورة القسامية باعتبارها ذات خلفيات إسلامية، ونظر إلى شخص الحاج أمين الحسيني كخطر استراتيجي برسم قيادته الدينية، ومن ثم فمسألة المواجهة بين الإسلام بسياقاته الدينية والحركية والحركة الصهيونية ومن بعدُ إسرائيل بالنسبة لهم كان حسابا مفتوحا لَّما يُغلق بعد، وبالتالي سعى الشاباك إلى اجتثاث الهوية العربية الفلسطينية بعد أن نجح بتجريف الإسلام اثر النكبة وتفعيله بصمت مفاعل العلمنة، ساعيًا لخلق هوية خاصة جديدة، العربي الإسرائيلي، وذهب الاكاديمي والباحث الإسرائيلي هلل كوهين إلى أنّ الحزب الشيوعي بصفته حزبا عربيا يهوديا وفقا لتعريفه، وقف في المنتصف بين الهوية العربية الفلسطينية والهوية الإسرائيلية (هلل كوهن، عرب جيدون، ص13-النسخة العبرية) وهذا الموقف أثّر بشكل كبير على الصيرورة السياسية للداخل الفلسطيني، ولذلك سعت المؤسسة الإسرائيلية بكل ما أوتيت من قوة لإصمات الرواية الفلسطينية وطمسها، وعليه فعلى سبيل المثال لا الحصر لا تدرس مادة التاريخ الفلسطيني والنكبة في كتب التاريخ للطلاب العرب، ويشار إلى النكبة من طرف خفي فيما يدرس الطلاب اليهود الرواية الصهيونية وتُذكر النكبة بصراحة. ونحن في هذا السياق لا بدَّ من الإشارة الى أنّ الشاباك سعى جاهدا لتجنيد عملاء لصالحه وطافحة السجلات بأسماء العملاء وأدوارهم وما فعلوه في تلكم المرحلة المبكرة من تاريخنا المعاصر.
لم يتوان الشاباك على ان يدخل بعضهم للتدريس في المدارس العربية كما حدث عام 1951 بعد أن طرد 42 مدرسا بسبب مواقفهم من الدولة، وقد كانت لهم عيون في كل بلدة وقرية ومدينة ونجع، وحظيت المدارس باهتمام خاص من طرف الشاباك ولا تزال وهؤلاء العملاء قاموا في تلكم المرحلة المبكرة بتنفيذ عمليات تخريبية في البلدان العربية المجاورة، وعند عودتهم تم التخلص من بعضهم كما يُحدث كوهين في كتابه المذكور آنفا، وحتى لا يظن القارئ أن الخير قد فُقِدَ من اجدادنا وآبائنا في تلكم المرحلة العصيبة، فأنا أطمئنه أنه كانت مقاومة شرسة معلنة وصامتة للشاباك وعملائه وحدثت مواجهات أكثر من مرة وفي اكثر من مكان. ومن نافلة القول أن نشير الى مظاهرات سخنين عام 1961 بعد استشهاد خمسة شباب في أكتوبر/ تشرين اول، على بوابات غزة ورجمهم رجال الشاباك (كوهين، ص15).
مطالع صفرية النتائج..
عندما نقرأ قصص علاقة الشاباك مع الشرطة في بعض الملفات الجنائية ذات الصلة العلائقية بين الطرفين على مستوى الوسط اليهودي، وكيف أنّ الشاباك قد دافع عن بعض القتلة ممن كانوا يخدمون مصالحه العليا التي هي مصالح الدولة، تدفعنا للإشارة الى أن هذه العقلية وهذا النوع من التفكير عميق في أروقة صناع القرار لدى هذا الجهاز، إذ الفوضى والعنف قد يكون للحظات من ضرورات المرحلة التي تخدم هذا الجهاز في مسيرته لتفكيك المجتمع وإعادة هندسته مجددا، وكما يحدث الخلاف بين الشرطة والشاباك اليوم في مواجهة الجريمة، حصل مثل ذلك في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث نشب الخلاف بينهم في قضايا راوحت بين الأمني والمدني والعنف المستشري في مجتمعنا الفلسطيني هو ميراث تداعيات النكبة ابتداء، وسياسات الضبط والأسرلة وتشويه الهوية والتناقض السياسي المتعلق بالعلاقة مع الدولة والمؤسسة والمجتمع الصهيو-يهودي- إسرائيلي انتهاء.
يتبع