الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني؟
الحاريديلية وهبة الكرامة/ المدن الساحلية (8)
الحاريديلية وهبة الكرامة/ المدن الساحلية (8)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
كشفت هبّة الكرامة في أيار/مايو، عن البعد القومي- الديني الثاوي في جدل العلاقة بين اليهود والعرب في المدن الساحلية، ليس فقط عن هشاشة العلاقة المدينية بين الطرفين المتعلقة بالإجراءات اليومية وسبل المعاش، بل عن الدور الذي تقوم به النَوويات الاستيطانية المعززة حكوميا والمؤدلجة دينيا وقوميا في هتك أستار هذه العلاقة الهشة أصلا، وزرع بذور الكراهية والاستعداء للأقليات العربية في تلكم المدن التي هم أصحابها الحقيقيون والشرعيون.
لا يوجد شرٌ يوازي الاحتلال ومآسيه والاستعمار وكبائره، والنوويات الاستيطانية في حقيقتها امتداد للشر السائل الذي بدأت به الحركة الصهيونية وبدعم مباشر ولا يزال من الدول الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا والولايات المتحدة، وهذا الشر يصيب مباشرة الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم ومنذ النكبة وإلى هذه اللحظات. لم تتورع السلطات الإسرائيلية عن تعزيز الاستيطان اليهودي في المدن الساحلية، وقد تناولت في مقالات سابقة بعضا من تلكم السياسات والإجراءات العاملة على محاصرة أصحاب البلاد والدفع لتهجيرهم من مدنهم.
أحداث هبّة الكرامة كما ذكرت في مقالاتي ذات الصلة، نسفت مقولة التعايش في المدن الساحلية وعرّتها وكشفت عوار المؤسسة الإسرائيلية وتشابكها مع مافيات تستقدمها من الضفة الغربية مليشياوية ومؤدلجة، مهمتها الأساس تعكير صفو حياة العرب في تلكم المدن المُكَدرةُ أصلا بسبب الأوضاع المعيشية والسكنية التي أدت الى ضنك العيش في تلكم المدن.
في السنوات الأخيرة، أدخلت المؤسسة الإسرائيلية عاملا جديدا في التعامل مع المتبقي الفلسطيني في تلكم المدن، ممثلا بعامل أدلجة تحسين المدينة عمرانيا وجماليا، بحيث يتم استثناء المكون العربي من هذه العملية استثناء عرقيا ودينيا، ففي حين كانت الحكومات السابقة المعراخية والليكودية ما قبل عام 2003 تعمل على هندسة المدن الساحلية العربية بناء على معايير اقتصادية- ثقافية تشكّل رافدا حيا لاستقدام اليهود من أبناء الطبقات الوسطى والعليا للسكن في تلكم المدن، تغيرت تلكم السياسات نحو غزو منظم ومبرمج لاتباع الصهيونية الحاريدلية (النويات التلمودية) التي شاركت الليكود في الحكم، وكانت قد اقتحمته من قبل والهدف المباشر من هذه السياسات، السكن في الأحياء العربية لمواجهة تمدد العرب في تلكم المدن واستيلائهم على أحياء، عبر الزحف للسكن فيها، فكانت سياسات جديدة تدعم هذه المجموعات القادمة من المستوطنات في الضفة الغربية، ماديا ومعنويا، إذ باعتبار مشاهدة المواطنين لأناس يرتدون الكيباه والصندل وعادة ما يكونوا مسلحين ويمارسون طقوسهم التلمودية باليشيفوت التي اعدت خصيصا لذلك، تحت ستارات اليشيفوت العسكرية، فإن هذا المشهد اليومي سيؤثر على ثلاث مجموعات، العرب، اليهود من العلمانيين، واليهود من المحافظين، لذلك نشأت عبر العشرية الأخيرة حربا هادئة قادتها هذه المجموعات الوافدة عملت على تقريب المحافظين والتقليديين والتقرب من التيار الحاريدي والهدف خلق حالة من التوتر المجتمعي الدائم ليس بين العرب وعموم السكان اليهود، بل وبين اليهود أنفسهم وهو ما تطرقت له في المقالة السابقة.
هندسة المكان عمرانيا وجماليا، حملت أبعادا أيديولوجية هدفها الأساس التضييق على الأقلية العربية في تلكم المدن، من اعتبار أنّ ما يقومون به هو نوع من أنواع التحرير للأرض المتبقية مع “الجماعات الضعيفة”- في هذه الحالة الأقلية الفلسطينية في المدن الساحلية- برسم أنّ هذه البلاد لهم وفقا للوعد الإلهي الذي يزعمون وبذلك هم يستعينون بـ “الدين” لتحقيق غاية سياسية مؤسسة على فعل إجرامي عنصري، وهم إذ ينطلقون من منطلقات دينية صرفة فهم يعتبرون الساكنة العرب في هذه المدن، محتلين لأرض ليست لهم وهم أي هذه المجموعات الدينية الصهيونية الحارديلية تقوم بعمل مقدس بالنيابة عن كافة اليهود.
هكذا يجب أن نفهم سيل البناء في تلكم المدن وإعلان العديد من اللجان أن البيع لا يكون إلا لليهود، فالمسألة حرب صامتة تقودها قوى دينية متطرفة تتمول من أموال دافع الضرائب ويحميها المُشرِع والحكومة والحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والكيرن-كيمت التي عادة ما تكون صاحبة الأرض، وقد نهبتها من الفلسطينيين بأساليب ليس هنا موضوع الإشارة اليها (حول أساليب الكيرن كيمت ودورها في سرقة الأرض الفلسطينية يمكن العودة الى مقالة غادي الغازي/موقع هعوكتس: تعلم السرقة: أراضي النقب في مداولات القيادة الصهيونية عام 1948 الصادر في 7/11/2013).
تاريخيا، معلوم أنّ الاستيطان في المدن الساحلية من قبل النويات الدينية الصهيونية جاء على خلفية تحولات وأحداث سياسية كمثل الخروج من سيناء واتفاقية أوسلو وتفريغ مستوطنات غزة، وعملية التوطين والاعداد الاستيطاني في تلكم المدن جاء حمال أوجه، من جهة لتسكين غضب هذه الفئات الأيديولوجية، ومن جهة أخرى لتثبيت الوجه اليهودي للمدن الساحلية العربية والجليل والنقب ومن جهة ثالثة لخلق تغيير ديموغرافي حاسم لصالح الأغلبية اليهودية. يلاحظ ان الهندسة العمرانية والجمالية لهذه المدن، تتم من خلال أذرع حكومية كوزارات الإسكان والتعليم والزراعة ومن خلال منظومات من المنظمات الاستيطانية التي تتحصل على ملايين الشواقل بهدف تحقيق مبتغاه الاستيطاني بشقيه السياسي والديني-التبشيري، ويلاحظ أنّ كافة المناقصات الصادرة عن كافة تلكم الاجسام الرسمية وغير الرسمية موجهة وتهدف مجموعات بعينها كلها تتبع الى منظمات دينية صهيونية وحارديلية (انظر على سبيل المثال لا الحصر القرارات الحكومية رقم 1041، 3651، 3796) ففي سنة 2013، مثلا، في قرارها الحكومي رقم 1041 المرمز ب: 1041(נג\6) قررت الحكومة دعم دائرة الاستيطان وهي دائرة غير حكومية كما ذكرت في مقالتي السابقة بمبلغ 500 الف شيقل للسنوات 2013/2014 ومليون شيقل للطلاب اليهود من القادمين الجدد. وينص القرار بعد إقرار ملايين الشواقل لمختلف الهيئات ذات الصلة بتهويد الجليل والمثلث ودعم الطلاب اليهود الوافدين والمجموعات اليهودية على أنّه “يحق لدائرة الاستيطان التواصل مع جمعية آياليم (جمعية تنادي بتعظيم القيم الصهيونية وتهتم بالطلاب الجامعيين اليهود وتحديدا القادمين الجدد منهم، وتنادي بالاستيطان الشبابي الطلائعي في المدن الساحلية)، وفقا لما تمليه متطلبات المناقصات لسنة 1993 (انظر الموقع الالكتروني قرارات الحكومة).
ثمة أداة أخرى (جهاز) تعمل لصالح تعزيز الوجود اليهودي الصهيوني الحاريديلي يتمثل في منحهم أراض عامة وحقوق بناء على هذه الأراضي وإقامة أحياء خاصة بهذه المجموعة الدينية الصهيونية باعتبار خصوصياتهم وتعتبر شركة بامونه (באמונה- شركة تهتم ببناء المساكن للجمهور الديني-القومي) صاحبة الصولة والجولة في البناء في تلكم المدن، فقد تمّ بناء العديد من المجمعات السكنية للمجموعات الدينية الصهيونية، فأقامت على سبيل المثال لا الحصر، مجمعّا سكنيا في حي العجمي في مدينة يافا في شارع هأتروج، وكذلك في حي نأووت إلياهو في مدينة عكا، وكذلك تمّ تخصيص قطع أرض للنويات التوراتية بقيمة سبعة شواقل للبيت إضافة الى رسوم الافتتاحية. ويشكل بناء حي رمات أليشيف في اللد لأبناء التيار الديني الصهيوني مثالا صارخا على الأساليب الملتوية في كيفية البناء، فقد تمَّ إخلاء سكان عرب ويهود بشكل غير قانوني وبتعويضات مالية، وتمّ بيع البيوت بشكل نخبوي تم فيه استثناء اليهود من العلمانيين والعرب.
كل ما ذكرت وغيره الكثير، أسس لهبّة الكرامة وواضح أنّ الأمور تزداد سوءا، ما يعني أنّ الأمور مرشحة لما هو أشد مما سبق.