الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني؟
الحاريديلية وهبة الكرامة (6)
الحاريديلية وهبة الكرامة (6)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
طالعنا الإعلام الديني الصهيوني نهاية الأسبوع المنصرم ومطلع هذا الأسبوع، بأخبار تفيد أن التيار الديني الصهيوني ممثلا بمجموعة سموتريتش، وجماعات الضغط الديني الصهيوني الحاريدي، ومجموعات تنتمي إليها مثل جماعة “كهانا حاي” وغيرها، طالبت نفتالي بينيت وجهات صهيونية دينية في الكنيست، بوقف قرار وزارة الأمن الداخلي جمع السلاح من النوويات التوراتية في مدينة اللد وغيرها من المدن الساحلية، ضمن سياسات يبدو شرعت هذه الوزارة باتخاذها اتجاه مجموعات تعتقد أنها تشكل خطرا على منطقة حوض غوش دان، معقل الصهيونية العلمانية واليسارية، بمعنى أن جمع الأسلحة ليس حبا بالعرب بل حفاظا على الوجود الإسرائيلي المتميز في تلكم المنطقة، وباعتبار أنّ هذه البقعة هي قلب وعقل إسرائيل ومحور وجودها المادي الموصول مع الغرب وحضارة ما بعد الحداثة المتمثلة بالسطوة الامريكية الكونية، وهو ما يضعنا أمام علامات سؤال حول مستقبل العلاقة بين هذه المجموعات التي تتغلغل في تلكم المناطق وتحديدا المدن العربية الإسلامية الساحلية كيافا واللد والرملة وعكا وحيفا مع الوجود الفلسطيني من جهة، والعلاقات مع الكل الإسرائيلي من جهة أخرى، خاصة بعد أن بيّنت أحداث هبة الكرامة عمق تفهم اليهود (عموم اليهود) لهذه المجموعات، بل واعتبارها النواة الصلبة لذلك الوجود عبر مسعاهم الواضح لتطبيق نظريات الإخلاء والإحلال الرامية للتضيق وتفريغ تلكم المدن التاريخية من الوجود الفلسطيني بعدئذ نجحت في تشويه معالم هذه المدن عبر الاستعمار المديني، ظنًا منهم أنّ هذه المدن فقدت خاصيتها التاريخية الإسلامية برسم أنَّ الاستعمار “اليهودي- الصهيوني” الجديد أنهى البيان العمراني المادي وما بقي إلا إنهاء البيان العمراني البشري ومن ثم كانت الحاجة إلى هذا الفيلق من الصهاينة الدينيين لتحقيق استعمار جديد ومناكف لما تبقى من وجود فلسطيني داخل هذه المدن، ولذلك كانت ردود أفعال السلطات على هبة الكرامة في تلكم المدن تحديدا قاسية ومروّعة في أحايين كثيرة، طمعا في زراعة وتذويت الخوف ليكون خوفا شخصيا تكون تجلياته في عدم الشعور الدائم بالأمن الشخصي بغض النظر عن الأوضاع المادية وتعلقاتها كما يبين ذلك الفيلسوف اليهودي “زيغمونت باومن”؛ في كتابه “الخوف السائل” للدفع الدائم نحو الهجرة الإرادية للفلسطينيين من تلكم المدن.
متابعات تداعيات هبة الكرامة على الجانبين الإسرائيلي بمكوناته المختلفة وخاصة الحارديلية تشي أنّ هذه المجموعة تحديدا وقعت حتى هذه اللحظة في فخ “سلطوي” كان سابقا قد أمدّها بالوجودين المادي والأمني، سواء بحمايتها المباشرة والستر على جرائمها في الضفة الغربية، وظنّت أن بالإمكان المضي في هذا الغي، أو بمدها بالوجود المادي مالا وبشرًا ومؤسسات، وقد جاءت هبة الكرامة وشاغبت على هذه الوضعية بشقيها المادي الوجودي مذكرة أولو الأمر في تل ابيب، أنّ الوجود العربي الفلسطيني في تلكم المدن راسخ وثابت ونافية الأمن الذي طالما تمتع به المستعمر الحارديلي في تلكم المدن، خاصة بعد ما صدر عن السلطات من أفعال وتوجهات اتجاه هذه المدن من مثل فرض منع التجول والاعتداءات المباشرة على المواطنين العرب، واعتقال العديد منهم إلى هذه اللحظات، فيما من شاغب وأطلق النار وقتل من هذه المجموعة محمي من طرف السلطات، فقد كشفت هبة الكرامة مجددا عن سوءات هذا النظام ليس كنظام سلطوي استعماري في تلكم المدن فحسب، بل وكنظام متخلف غلّب المصالح السياسية-الحزبية الضيقة على حساب المصلحة العامة كيفما كانت، باعتبار أن هذه المدن نسيج متكامل على الرغم من سياسات التشويه المتعمد الذي رسّخته حكومات متعاقبة منذ النكبة إلى هذه اللحظات.
سقوط الأيديولوجيا..
لأول مرة في تاريخ العلاقات العربية-الفلسطينية على مستوى أبناء الداخل الفلسطيني، تقف التيارات الدينية الصهيونية الحاريدلية وجها لوجه أمام غضب السكان أصحاب الأرض والبيت، وكانت النتائج المباشرة واضحة للعيان جميعا، فصاحب الأرض بقي على أرضه، والمستعمر الوافد من مستعمرات عام 1967 سارع لطلب النجدة بل أن منهم من هربوا ولم يَعودوا بعد، ذلك أن الحياة والوجود أهم في لحظات المواجهة والحسم من الأيديولوجيا، لذلك قيل أن الحياة أقوى من الموت، ولذلك ولا عجب أن وقعت هذه المجموعة بين نارين، نار الانتصار للأيديولوجيا والدعوات للنصرة كما بينت في مقالتي السابقة، وبين استعجال الخروج من المواجهات حفاظا على الحياة والوجود، متخليا عن الأيديولوجيا وهذا في حقيقته الأولى معلمُّ من معالم أزمة الهوية القادمة على المجتمع الإسرائيلي، وتناقضات علاقات وجوده مع هذه الأرض ليس برسم قداستها المتوهمة فحسب، بل وبالتضحية من أجلها، فقد كشفت أحداث هبة الكرامة أن الأرض التي يُفترض أن يقف عليها مستقبلهم هي أرض رخوة تماما كما الوظائف وعموم الاعمال (لاحظ وباء كورونا وما أحدث من تحد للسلطات في هذا الباب)، والشركات التي يعملون فيها والأفضليات التي يتمتعون بها، فهذا كله في لحظة المواجهة مهما كانت “هينة” تضعهم كمستعمرين أمام حقيقة أنهم ليسوا أصحاب هذه البلاد، تماما كما سمرة الأرض فلا يعني وجودهم (الأبيض) أنها ستتحول بهم الى بيضاء، بل ستبقى سمراء قمحية كما أهلها، ولا طول البنيان سيخفي جماليات العمران الفلسطيني.