أخبار رئيسيةأخبار عاجلةأخبار وتقاريرمحلياتومضات

تهويد البيئة الفلسطينية… “الأرض الجرداء”

د. عبد الرازق متاني

مع تجدد الحرائق في الداخل الفلسطيني، تتبادر إلى ذهني دائما مشاريع المؤسسة الإسرائيلية ومساعيها المستمرة لتهويد الأرض والمكان، وأيضا البيئة والحيز البصري بعد أن قامت بتدمير آثار القرى والبلدات العربية التي هُجّر أهلها عام النكبة.

أطلقت إسرائيل على المشروع الأكبر الذي أطلقته عام 1965 وقامت من خلاله بتدمير آثار القرى العربية وإزالتها اسم “يشور هكركاع” أي تسوية الأرض، وقد اعتبر المشروع الوطني الإسرائيلي وجاء ليكمل أعمال الهدم التي طالت القرى العربية منذ عام النكبة. حاولت المؤسسة الإسرائيلية إعطاء عمليات الهدم مسوّغات قانونية بحجة أنّ الحديث يدور عن “خرب” وآثار آيلة للسقوط وتشكل خطرًا على الجمهور ويجب هدمها والتخلص منها. اشترك في هذا المشروع 20 مؤسسة، كان الجيش الإسرائيلي واحدة منها، الأمر الذي يعكس حجم وكبر هذا المشروع والمجهود الذي بذلته المؤسسة الإسرائيلية من أجل طمس المعالم والبلدات الفلسطينية المنكوبة.

د. عبد الرازق متاني
د. عبد الرازق متاني

لم تكتف إسرائيل من خلال هذا المشروع بتدمير غالبية آثار القرى العربية التي هُجّر أهلها عام النكبة والتي زاد عددها عن 530 بلدة؛ هذه البلدات غالبا أزيلت بالكامل ولم يتبق من معالمها شيء يذكر، وقد أقيمت المستوطنات والبلدات اليهودية أو الأحراش على أنقاضها ليتم إخفاء معالمها بالكامل، بل قامت المؤسسة الإسرائيلية أيضا، بتهويد و”عبرنة” الخارطة الفلسطينية وإزاله اسماء البلدات العربية المهجرة من الخرائط، لتحل مكانها أسماء المستوطنات اليهودية التي أقيمت على أنقاض القرى العربية، وقامت كذلك بتغيير أو تحريف الأسماء العربية الكنعانية الاصلانية (قرى، بلدات، شوارع، وديان.. إلخ) وتصويرها على أنها مسميات يهودية كما هو حال “عكو” و”يافو” و”صهيون”، والتي هي كلها أسماء كنعانية الاصل، وفي أحيان أخرى تم اختلاق مسميات صهيونية حديثة بعضها متصلة بعمليات احتلال البلاد أو منسوبة إلى القصص التوراتية. وقد أشرف على هذه الأعمال لجان رسمية عنيت بهذا الأمر بإشراف مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه.

ولعلنا في هذا السياق، نستذكر الجملة المنسوبة إلى موشية ديان في عام 1969 في ردّه على استفسار وجّه له حول القرى العربية وما حل بها، ولعل السؤال جاء على إثر حملة “تسوية الأرض” وذلك بعد أربع سنوات من إطلاقها، ليكون الرد: “لقد بُنيت القرى اليهودية لتحل مكان القرى العربية، إنك لا تعرف أسماء تلك القرى العربية، وأنا لا ألومك على ذلك لأنه لا توجد كتب جغرافيا، وليس الكتب فقط، بل كذلك إن تلك القرى العربية لم تعد موجودة الآن.. لا يوجد هنا مكان واحد في هذه البلاد لم يكن فيه سكان عرب”.

اعتبرت إسرائيل عمليات تهويد البيئة والفضاء الفلسطيني من خلال زراعة “المحرشات” والغابات، مشروعها الوطني والذي هدف إلى إخفاء آثار و”ركام” القرى العربية المهجرة. وقد تولى هذا الأمر “الصندوق القومي الاسرائيلي” الذي كان له أكبر الادوار في تهويد الارض وإنشاء المحرشات على أنقاض القرى ليصل عدد الاشجار التي زرعها الصندوق القومي عام 1971 إلى 100 مليون شجرة، بعد إقامته الغابات على أنقاض القرى وقد استمر بزراعة حوالي 600 ألف شجرة متنوعة كل عام في كافة انحاء البلاد.

من بين أهم هذه الغابات، تلك التي أقيمت حول مدينه القدس، تحديدا في منطقه اللطرون بعد حرب عام 1967 على أنقاض القرى عمواس، يالوا وبيت نوبا، والتي تم تهجيرها وهدمها بعد أسبوع من انتهاء الحرب. قام “الصندوق القومي الإسرائيلي” بزراعة غابات متنوعة الأشجار على أراضي القرى، وقد نفذّت العملية بحسب خطة مسبقة تهدف إلى تحريش المنطقة المؤدية الى القدس، لتقوم جرافات الصندوق بالإجهاز على المكان وتسويته بالأرض، ومن ثم جاء المختصون في زراعة الأشجار ليبدؤوا عملية التشجير وزراعة حوالي مليون شجرة، التي تبرعت فيها كندا في حينه، ليطلق على المنطقة اسم “بارك كندا”. هذا المتنزه يشتهر اليوم بمسارات ركوب الدراجات الهوائية والتي تمر في بعضها فوق قبور المسلمين والصحابة المدفونين في مقابر قرية عمواس والقرية التي لم يبق من آثار بيوتها شيء بعد أن وصل تعداد سكانها عام 1967 إلى حوالي 2000 نسمه.

“المحرشات” المزروعة، شملت بالغالب أشجار الصنوبريات والتي هي أشجار دخيلة على أرض فلسطين التي امتازت بزراعة الورديات والتين والزيتون والرمان.

تناولت دراسات إسرائيلية عديدة موضوع زراعة المحرشات الإسرائيلية، وقد علل العديد من الباحثين الإسرائيليين اعمال التحريش محاولين إيجاد تبرير لها، مصورين إياها على أنها ضرورة ملحة للنهوض في البيئة، أو تصويرها على أنها تقع ضمن مساعي اليهود الاشكناز المؤسسين للدولة اليهودية لتحويل البيئة في البلاد إلى بيئة مشابهة للبيئة الأوروبية، وزعموا أنهم أرادوا صناعة بيئة مشابهة لتلك التي عاشوها في طفولتهم وبقيت راسخة في اذهانهم؛ معتبرين أنفسهم بأنهم امتداد للأوروبيين أو أنهم الحامي لحضارة الغرب، كما صوّرهم ثيودور هيرتسل في كتابه “دولة اليهود”: “إن دولة اليهود المنشودة ستكون عبارة عن سور يفصل بربرية الشرق عن حضارة الغرب وتقدمه”. في حين يتغافلون عن البعد الأيديولوجي والرؤية الصهيونية وعمليات تهويد الأرض وإخفاء الآثار والمعالم العربية. ولعلنا في هذ السياق لما نستذكر ادّعاءاتهم عن أرض فلسطين بأنها أرض بلا شعب قد كان قصدهم بذلك انها أيضا أرض جرداء قاحلة تنتظر المخلص ليجلب لها الازدهار والخضرة والعمار.

الصنوبريات امتازت بكبر حجمها وكثافتها وتغطيتها لمساحات شاسعة، ومن ميزاتها النباتية احتواء أوراقها على مواد تمنع نمو نباتات أسفل منها، الأمر الذي ساهم في القضاء على النباتات الأصلية في المكان، أضف إلى ذلك استحواذها على الحيز البصري العام وبذلك تم تهويد البيئة.

مشروع التهويد البيئي لأرض فلسطين أثبت فشله بعد هرم أشجار الصنوبريات والتآكل الذي أصابها وتلف العديد العديد منها، أضف الى ذلك أن هذه الغابات كوّنت بيئة خصبة للحرائق التي ما أن تشتعل حتى تلتهم المساحات الواسعة كما هو الحال في حريق الكرمل قبل سنوات وحرائق القدس الأخيرة.

على إثر ذلك، بتنا نلاحظ في السنوات الماضية توجه وقيام المؤسسة الإسرائيلية بزراعة الأشجار الطبيعية الاصلية التي امتازت بها أرض فلسطين ومناخ حوض البحر المتوسط، كالبطم والسنديان والشبرق والخروب، وذلك بالإضافة إلى الورديات والرمان، مُعرّفين إياها على أنها النباتات التوراتية الاصلية في الأرض المقدسة “ارتس هكودش” والتي هي في الحقيقة النباتات الفلسطينية المنتشرة في المنطقة منذ القدم، وما هذا التوجه إلى الجزء اليسير من انتحال التاريخ الفلسطيني الطويل. الدولة اليهودية وبعد أن احتلت الأرض، وفشلت في تهويد البيئة، ومن خلال استمرارها بمشاريعها التهويدية ومساعيها في ترميم الهوية لليهود القابعين على أرض فلسطين على إثر التشرذم والتشقق الحاصل بين اليهود أنفسهم، أطلقت مشروع “يهودية الدولة” والذي هو بالأساس موجه إلى اليهود أنفسهم يسعى الى إعادتهم وربطهم بجذورهم الصهيونية والمحافظة على الهوية اليهودية وتعزيز علاقة اليهود بأرض فلسطين. على رأس هذه المشاريع يقف مشروع “مخطط تعزيز البنية التحتية والتراث الوطني” والذي خصصت له وزارة خاصة “وزارة شؤون القدس والتراث” ورصدت لها الأموال الطائلة وسعى الى التشبيك بين الوزارات والمؤسسات المختلفة من أجل تعزيز الرواية والسردية الصهيونية وتعزيزها على أرض الواقع.

حول المدرجات الزراعية المنتشرة في جبال القدس

على أثر الحرائق العديدة والأخيرة في منطقة القدس تحديدا، انكشفت العديد من المدرجات الزراعية والتي هي عبارة عن معالجة لانحدار الجبال وتسويتها من خلال بناء جدران حجرية، وذلك من أجل تطويع الأرض وتخصيصها للزراعة وخصيصا أشجار اللوزيات والزيتون. وقد نقل من خلال صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تأريخ هذه المدرجات الزراعية إلى حوالي 400 عام، وذلك بناء على دراسة إسرائيلية حول الموضوع وقد أحببت ان أعرج على الموضوع بعد استفسار العديد حوله، وفي هذا السياق نقول:

– تقنيات السدود والمدرجات الزراعية هي تقنيات قديمة ومنتشرة في عدة بلدان ومعروفة في أرض فلسطين منذ القدم، ولعلنا في هذا السياق نستذكر تقنيات السدود التي أوجدها الانباط العرب وقاموا من خلالها بزراعة النقب من خلال استعمال تقنيات متطورة أكثر من هذه الجدران الزراعية، وبذلك قاموا بتسخير المناخ الصحراوي وإنشاء بيئة قابلة للزراعة في وسط وعلى أطراف الصحراء امتدت المدن النبطية بمستلزماتها من المنتجات الزراعية.

– إمكانية أن تؤرخ بعض هذه المدرجات إلى 400 سنة واردة، وقد تكون صحيحة وذلك نسبة للعينة التي فحصت بالبحث، الحكم على الأمر يحتاج إلى بحث مستفيض ومعمق.

– تأريخ مثل هذه الجدران هو أمر صعب ومركب، ولفحصه نحتاج النظر إلى عدة جوانب وعلى رأسها كوننا نتحدث عن مدرجات تكرر استعمالها ومنها ما تعرض لتراكم الطمي عليه أو الجرف وفي أحيان كثيره كان يتم بناء أجزاء من هذه المدرجات مرارا وتكرارا. وغالبا ما يتم خلط الأتربة والفخاريات التي تحويها من ازمنة مختلفة، وبالتالي يصعب تأريخ الأماكن، حتى لو أجري فيه عمليات تنقيب موضوعية. وبالتالي من أجل الحصول على نتائج جيده وواقعية لا بد من توسعة دائرة البحث والإكثار من العينات قدر الإمكان لتفادي الأخطاء في التاريخ.

في النهاية، لا بد أن نشير إلى أن مثل هذه الحرائق وإن أحدثت دمارا كبيرا للبيئة والبلاد، إلا أنها وبلا شك فرصة ثمينة للباحثين والمتجولين والموثقين للآثار والتراث الفلسطيني، تمكنهم من اكتشاف آثار عديدة كانت ربما قد خفيت أو أُخفيت عن العيون، ولكنها وعلى إثر الحرائق قد تكشفت وباتت ظاهرة. ومن هنا نطالب المعنيين بالحفاظ على تراثنا الفلسطيني بضرورة البحث واستقصاء هذه الآثار وتوثيقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى