دعوة للهجرة
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
عشنا في الأيام القلائل الأخيرة، ذكرى الهجرة النبوية، ذلك الحدث العظيم الذي كان بمثابة نقطة الانطلاقة في رسم معالم الدولة الإسلامية الأولى. وتعتبر الهجرة مفصلا مهما في تاريخنا الإسلامي، لذلك يجب علينا كمسلمين أن نحتفي بهذه الذكرى ونستذكرها في بيوتاتنا وكتاباتنا وفي خطاباتنا نستذكر من خلالها أعظم العبر والدروس ونسير على خطاها. نتعلم أسمى معاني التضحية لأجل الدين وكيف تجلّت بأعظم صورها حينما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بلده التي أحبها بشدة “مكة” لأجل نشر دعوة الله ورسالته حيث قال: والله إني أحبك ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت، وكيف تجلّت تضحية الصحابة رضوان الله عليهم عندما تركوا أموالهم وبيوتاتهم وعائلاتهم وهاجروا في سبيل تحقيق ما آمنوا به. بحثوا عن أرض تتسع لتحقيق مبدئهم الذي آمنوا به، وتأسيس أول نواة لدولة الإسلام فكانت الهجرة من دار الكفر (مكة آنذاك) إلى دار الإسلام (المدينة المنورة) وعند فتح مكة أخبرنا النبي المصطفى أن لا هجرة بعد الفتح، ويعني بذلك أن مكة أصبحت دار إسلام فلا يمكن الهجرة من دار إسلام إلى دار إسلام، وانتهت خاصية هذه الهجرة النبوية، لكن الهجرة العامة لا تزال قائمة إلى قيام الساعة لقول الرسول المجتبى: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تشرق الشمس من مغربها). إذن، يتضح لنا أننا مازلنا في زمن هجرةِ، لكن لكل منا هجرته الخاصة: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
نعم أيها السادة، علينا أن نجدد هجرتنا إلى الله ورسوله وترك المعاصي والمحرمات، فلا يكفي أن أكون مسلمًا ساكنا سلبيا بل يجب أن أكون مسلمًا إيجابيا متحركا ذو عزيمة وشكيمة أعمل لأجل دعوة الله عز وجل ولأجل ما أؤمن به، فلا بد وأن يهاجر الفرد فينا في كل يوم هجرة من الكفر إلى الإيمان ومن التفلت إلى الالتزام، وأن يضبط الواحد فينا سلوكه في كل تعاملاته وفق نهج الإسلام. وفي ذكرى الهجرة علينا أن نتذكر ما عايش الصحابة من بطش قريش وما عانوه من ألم في سبيل نصرة الحق أمام الباطل، ونستذكر أن جوهر الهجرة يتمثل في الصراع بين الحق وأهله والباطل وأتباعه.
فكن من أهل الحق، وإن قل مناصروه، لأن النصر دائما وأبدا حليف أهل الحق.
وفي هذا المقام يحضرني ما يعانيه دعاتنا ومشايخنا من سجن وتضييق وتهجير قسري عن بلادهم وحتى قتلهم، تحت حجج واهية، في سبيل ثباتهم على مبدأ الإيمان، ويحضرني كذلك ما يعانيه المسلمون في شتى أصقاع الأرض من ظلم وجور وتداعي الأمم عليهم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، حتى أصبحت البلاد الإسلامية وكأنها جاذبة للكوارث والمصائب، ما تنتهي من مصيبة حتى تحل عليها أخرى، والسبب في ذلك واضح كوضوح الشمس في كبد السماء، فأغلب دولنا قد خالفت أوامر الله عز وجل، فحلّت عليها المصائب والويلات، فانظروا إلى سوريا، ومصر، واليمن، وليبيا… إلخ، وما حلّ بها بسبب هجرتها العكسية، لأن هجرتها كانت من الإيمان إلى، لا أريد أن أقول الكفر ولكن إلى معصية الله فحق عليها الويلات.
لذلك ما علينا أيها المسلمون، سوى أن نفر إلى الله ونهاجر إليه، حتى لو التف الأعداء من حولكم فحتما سيأتي الفرج والنصر من الله. هي دعوة للهجرة لكل واحد منا حيث نصلح من خلالها قلوبنا ونفوسنا حتى نستطيع الوقوف بوجه أعدائنا وإني ها هنا أتوجه إلى أهلي وناسي في فلسطين وأُبشّرُ نفسي وإياهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَنْ ذِي الْأَصَابِعِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ ابْتُلِينَا بَعْدَكَ بِالْبَقَاءِ أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: “عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ لَكَ ذُرِّيَّةٌ يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَيَرُوحُونَ). وحين قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام). وحين قال: (يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي).
فاحمدوا الله كثيرا وأدعوه أن يجعلنا وذرياتنا ممن يغدون إلى المسجد الأقصى وأن نكون من صفوة عباده وأن نصدق الله في هجرتنا إليه.