الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني؟
الحريدية في سياقات الصهيونية الدينية (3)
الحريدية في سياقات الصهيونية الدينية (3)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
سؤال التدين والتديين في المجتمع الإسرائيلي- مجتمع ما بعد قيام إسرائيل- أرق التيار الديني الصهيوني كما التيار الحاريدي مع تفاوت كبير بينهما برسم علاقاتهما مع الشأن الحداثي باعتبار أن الحركة الصهيونية عمليا هي من مفرزات الحداثة وما بعد الحداثة، وبسبب التحولات الجارية في المجتمعات الدينية على شقيها الحاريدي والديني المتصهين، سواء تعلقت بتأثير الصهيونية، ومن بعد الدولة، على هذه التيارات، أو بسبب حركة الحياة الإسرائيلية في نسختها العلمانية المتبناة من قبل الدولة، ولذلك شغلت قراءات كبار الحاخامات لهذه التحولات بال دعاة ومفكري هذه التيارات، ففي حين تبنت الارثوذكسية الدينية بشقيها السفرادي والاشكنازي ما أسميه سياسات حماية الإسوار أي حماية المجتمعات الحريدية من مؤثرات العلمنة والحداثة، فإنَ التيار الديني المتصهين وجد صعوبات جمّة في هذه الناحية برسم الفهم التجديدي الذي جاء به الراب كوك مُعرّفا اليهودي بجنسيته ونسبه لا بمدى تدينه من جهة، وبرسم علاقاته مع الأرض المقدسة الموعودة كما سأبين لاحقا، وعليه فقد شغلت قراءات الراب كوك للمجتمع اليهودي غير المتدين باعتبار أن هؤلاء اليهود ممن تركوا الشتات وعادوا الى أرض “إسرائيل” هم جيل التجديد الذي عليه ستؤسس الصهيونية الدينية رؤيتها الراهنة والمستقبلية، ولذلك حظيت هذه القضية باهتمام واسع يستشعر منه الهمَّ والاهتمام وشكلت بابا وهَّما واسعا في تنظيراته الفلسفية الدينية، واعتبر ومدرسته اليهود الذين قدموا الى إسرائيل، جيل الفتح والتحرير والخلاص، بغض النظر عن مستويات تدينهم باعتبار أنَّ وجودهم على أرض إسرائيل كما ذكرت آنفا نوع من أنواع التجديد الديني، منظرا للقاعدة الذهبية التي اجترحتها واستحالت إلى نور في درب هذا التيار “القديم يتجدد والجديد يتقدس”. ومن ملامح هذه القاعدة الكوكية أنَّ اليهودي بعد قيام إسرائيل سيتخلص من كل الأدران والقاذورات الدنيوية والمادية التي حالت دون يهوديته وبتخلصه من رجس الدياسبورا والشتات، يستحيل إلى اليهودي الجديد الخلاصي، وهذا الجديد بهذا الدور الطهوري يصبح مقدسا برسم يهوديته ومختاريتيه، وهذه الفلسفة رافقت المد الديني الصهيوني إلى هذه اللحظات، وقد فلسف حاخامات هذه المدرسة (مدرسة الراب كوك) في أنَّ إسرائيل موعودة لكل ذرية إبراهيم من نسل يعقوب واسحاق (فقط) بغض النظر عن مستويات تدينهم وعلاقاتهم مع الدين، إذ أن أصل العلاقة، وفقا لهذه الفلسفة، تتعلق بالذرية (الجنس والذرية) وليس في مستويات التدين، فوفقا للنصوص المقدسة، فإنَّ الله وعد هذه الأرض لذرية إبراهيم ولم تتطرق تلكم النصوص المتعلقة بالوراثة بالتدين ومستويات التدين، كما تذهب بعض المدرس الحريدية، بل بالانتساب الجنسي ولذلك تعتقد المدارس الدينية اليهودية على اختلاف مشاربها العقدية والتشريعية، أن هذه المسألة محسومة من حيث جدل العلاقة مع الأرض، وعليه فكل من سكنها من غير اليهود يعتبر وفقا للمعتقد الشرعي من الغزاة/المقتحمون لما ليس لهم، وهؤلاء الغزاة يجب منعهم من ذلك بعدئذ تحققت العودة إلى الأرض المقدسة. في ذات السياق ثمة مقالة في علاقة الأرض المقدسة الموروثة والإنسان اليهودي وهل تستمد الأرض المقدسة قدسيتها من ذات الانسان اليهودية “الذات اليهودية”.
جدل الأرض واليهودي ومسألة القداسة
في السياق الإسرائيلي، يُلاحظ في العشريات الأخيرة أن أتباع التيار الحاريدي هم من يتقدم مسألتي الأرض والاستيطان باعتبارهما في الجدل اليهودي متلاصقان فاليهودي “المعاصر” يستمد وجوده ومعالم هويته من علاقاته بالأرض الموعودة وليس بالضرورة من درجة تدينه، ولذلك فاليهودي تتأسس هويته الذاتية والجمعية من عمق العلاقة مع الأرض الموعودة وليس من رسم علاقاته مع خالقه المنعم المتفضل عليه، وهو على سبيل المثال ما ذهب إليه كبار حاخامات التيار الحاريدي الأشكنازي في بيانهم الصادر عنهم في تشرين ثاني من عام 1998 فيما يتعلق في إعادة الانتشار الثاني لقوات الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، معتبرين الانسحاب من بعض الأراضي خطر يهدد أمن اليهود (أنظر: صحيفة اغودات يسرائيل، “هموديع” 17/11/1998). من هنا يمكننا أن نفهم على سبيل المثال لا الحصر التغيير الذي حدث في الادعية أثناء الصلوات من دعوات لحكام إسرائيل إلى دعوات لحمايتها من حكام إسرائيل، وقد ترافق هذا التغير في الصيرورة الزمانية مع اتفاقيات السلام التي أبرمت مع مصر، ففي حين كانت صلواتهم “أطال الله عمر رؤساء إسرائيل ووزرائها ومستشاريها” تغيرت إلى “اللهم احم الدولة من رؤسائها ووزرائها ومستشاريها” وهذه الصوات كانت ترفع في المدارس الدينية “اليشيفوت” التابعة للحركة الصهيونية الدينية، وفي هذا التغيير تعبير عن تغيير في السياسات الرسمية وفقا لرؤية حاخامات هذا التيار.
تشكّل الكتب المدرسية للتيارين الديني والحاريدي- (سيكون لنا إطلالة على بعض من هذه الكتب والمذاكرات)- الأرض الخصبة لمتابعة التربية الشوفينية- الشوفينية هي الاعتقاد المتعصب المغالي القائم على التعصب للوطن والقومية والمؤسس على أن وطنه أشرف الأوطان، وأمّته أمّة مختارة هي خير وأرقى الأمم والجماعات، وعلى دونية الآخر حتى لو كانت أمة ثانية شريكة له في الأرض- القائمة على كراهية الاخر الجوي/العربي، وتفسير صدقية ما حلّ بهم من نكبات ومن ثم تحليل قتلهم مستقبلا باعتبارهم غزاة وهمج، وهؤلاء لا حل معهم إلا القوة، وكل فعل يقوم به اليهود اتجاه العرب، له سند ومتن ديني وتتم هذه العملية لأدلجة وهندسة عقول الأطفال الذين هم في تربيتهم جمعوا بين القيم الحريدية والصهيونية، وليؤسسوا لجيل الحريدية القومية القائم على أساس من التمسك بالأرض والدفاع عنها، معتبرا طرد العربي من “أرضه” شرف وعبادة ومهمة مقدسة جمعت بين طهوريات الزمان والمكان والحدث، باعتباره صانع هذا الحدث ويد القدر التي جيء بها للحفاظ على ما تم تحريره من جهة، وتخليص ما تبقى من أرض مقدسة موعودة من الجوييم.