الشجار بين الإخوة
د. نسرين حاج يحيى- معالجة أسرية ومحاضرة جامعية
يكاد لا يخلو بيت من بيوتنا من المشاحنات والشجار بين الإخوة. ونجد أن الشجار لا يقلق الإخوة أنفسهم فحسب، بل الوالدين، الأمر الذي يحد من راحتهما ويشوش على الهدوء الذي يتمنيان أن يسود أركان منزلهما. إن هذه المشاحنات والشجارات بين الإخوة تثير غالبًا حيرة الوالدين وتساؤلاتهم حول أسبابها وكيفية التعامل معها، ونحن بدورنا سنحاول تناول الموضوع والإجابة عن هذه التساؤلات.
يتفق الاختصاصيون بأن الخلافات بين الإخوة هي طبيعية للغاية فهي لا تدل بالضرورة على عدم استقرار العلاقات الأسرية فحسب، بل وتعتبر صحية ومفيدة إن لم تأخذ الطابع التسلطي والاستبدادي أو الاعتداء الدائم من قبل أحد الإخوة على الآخر. وهنالك البعض من الاختصاصيين من يجزم بأن عدم وجود شجار بين الإخوة هو الأمر غير الطبيعي والمثير للتساؤلات مستعرضين بدورهم فوائد هذه الشجارات والمشاحنات، مدعين بأنها قد تساعد الانسان منذ نشأته الأولى على النمو العاطفي والاجتماعي وتطوير قدرته على التفاعل مع الآخرين، وصقل قدرته على الحوار والتفاعل، ومهارات حل النزاعات والخلافات والتي قد يحتاجها عند البلوغ.
ما أسباب الشجارات الدائمة بين الأبناء:
أولا: الغيرة، أهم الأسباب الكامنة وراء الشجار القائم بين الإخوة هو الغيرة التي قد تشتعل نيرانها بين الإخوة المتقاربين سنا والمتماثلين جنسيا خصوصا إذا تعامل الوالدان بشكل خاطئ مع أبنائهما، كتفضيلهما أحد الإخوة على الآخر في العطاء والاهتمام والتعبير عن المشاعر. فعلى سبيل المثال، قد نجد أن الأهل يداعبون ابنهم الأصغر ويلاطفونه، بينما يحرمون الأكبر من ذلك بحجة أنه كبير وأن لا وقت لديهم مطالبين إياه أن يتفهم ويتقبل ذلك، مما قد يثير الشعور بالغضب في نفسه والذي يترجم بالعدوانية تجاه أخيه الذي حرمه من محبة والديه المطلقة والتي في السابق كانت له وحده قبل مشاركته فيها.
ثانيا: التعامل الخاطئ من قبل الوالدين مع الأبناء: قد تؤدي بعض التصرفات الخاطئة للأهل إلى إثارة الشجار بين الإخوة أو إلى زيادة هذه الشجارات كمقارنة الأهل بين الأبناء وإظهار مميزات أحدهم دون الآخر بأن يقولوا إنه أكثر نجاحا أو ذكاء أو يطالبون الابن وبشكل دائم أن يكون “مثل أخيه”، مما قد يثير الحقد في نفسه تجاهه والشعور بأن نجاح أخيه أو تميزه يشكل سببا في عدم محبة والديه له أو سببا في توبيخه وإظهار “تقصيره” مما قد يطور الخلافات بين الإخوة واحتدام الشجار بينهم.
ثالثا: التقصير في التحضير، من الممكن أن تعود أسباب الشجارات بين الإخوة لعدم تحضير الطفل منذ البداية لقدوم مولود جديد للأسرة قد يشاركه كل شيء ابتداء من سريره مرورا بألعابه وانتهاء بمحبة والديه، وفي حال عدم تحضير وتهيئة الابن لمثل هذا التحديث في الأسرة قد تتعطل قدرة الطفل على تقبل الأخ الأصغر والتعامل معه على الوجه الصحيح، فمزيج من شعوره بالغيرة من هذا الشريك الجديد في كل شيء وعدم قدرته على التعامل معه قد تترجم باعتدائه عليه وعدم التفاهم الذي يتحول سريعا إلى شجارات وخلافات.
رابعا: الحياة المشتركة، قد تعود أسباب الخلافات بين الإخوة للاتصال والاحتكاك الدائمين فيما بينهم ولقضائهم معظم الأوقات معا لذا فقد تثار بعض الخلافات الطبيعية بسبب تقاسمهم الكثير من الأمور فالحياة المشتركة قد تساهم على تطور بعض الخلافات فيما بينهم.
خامسا: فاقد الشيء لا يعطيه، قد لا يشعر الوالدان أبناءهما أو البعض منهم بمحبتهما لهم في حين أن الآخرين قد لا يعبرون عن هذه المحبة، لذا فينمو هؤلاء الأبناء دون القدرة على محبة الآخرين وخصوصا المحيطين بهم مثل الإخوة، فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه.
سادسا: فقدان القدوة وعدم غرس القيم الدينية، قد يعظ الأهل أبناءهم لساعات طويلة حول الأخوة وأهمية التعامل مع الأخ بعطف وحنان وتجنب الشجار والاعتداء، في حين أن الوالدين نفسهما قاطعان لأرحامهما أو يتعاملان مع إخوتهما بشيء من القسوة والعدوانية. بذلك فهما يمثلان أسوة سيئة لأبنائهما الذين قد يتأثرون ويظنون أن التعامل على هذا الوجه مع الإخوة هو المقبول والمتبع. نضيف إلى ذلك عدم غرس الأهل للقيم الدينية في نفوس أبنائهم وإنشائهم عليها والتي تحثّ على صلة الرحم والاحسان إلى من أساء إليهم والتسامح.
ولعل هذه الأسباب وغيرها تدعونا إلى التطرق لسبل الحل وكيفية إيجاد المعادلة التي قد تحد وتضبط هذه الشجارات بين الإخوة، ومن أهم هذه السبل في نظري:
- عدم التدخل: ينصح الأهل بالتجاهل وعدم الرد عند نشوب شجار بين أخوين متكافئين من حيث المقدرة والقوة ويفضل تركهما يحلان مشاكلهما وخلافهما لوحدهما تماما كما اختارا الخوض فيها لوحدهما. وتنبع أهمية هذا التجاهل لإكساب الأبناء مهارات حل المشاكل والنزاعات فيما بينهم وأيضا لأن تدخل الأهل قد يؤكد مشاعر التفرقة التي يشعر بها الأبناء، فالتدخل ضد المعتدي، قد “يثبت” له وجود تميز لصالح أخيه وتحالف بين الأهل وبين الأخ ضده ،كذلك فإن التدخل لصالح المعتدى عليه قد يمنعه من تعلم كيفية الدفاع عن نفسه ويطور لديه الشعور بالاتكالية على أهله وعدم العمل على الحصول على حقه إلا عبر التوجه لنجدة الأهل له مما قد يطور شخصا ضعيفا في المستقبل.
ومن الجدير ذكره أن التوصية بعدم التدخل لا تعني التجاهل التام للشجارات، وإنما يطلب من الأهل مراقبة الأبناء ومنع احتدام الشجارات ووصولها إلى العنف أو الاضطهاد أو الاستبداد من قبل أحد الأطراف. كذلك يطلب من الأهل وضع قواعد ثابتة وواضحة وصارمة يحترمها جميع الأطراف، مثل تقسيم الألعاب فيما بينهم، أو تقسيم الأوقات للعب، أو حتى سن قانون يوجب عدم أخذ أحدهم اللعبة من الآخر إذا كان الأخير هو من بدأ في اللعب فيها، أو أخذ اللعبة منهما وحرمان كليهما في حال استمرار النزاع وعدم توصلهما لحل، كذلك من الممكن سن قواعد تساهم في حل الشجار وفي نفس الآن تطور روح التعاون بينهما من خلال وضع مصلحة مشتركة لهما كحصولهما على جائزة محببة لهما إن قاما بالتعاون معا في ترتيب الغرفة مثلا.
- التدخل في حال عدم التكافؤ: عند نشوب نزاع بين إخوة غير متكافئين من حيث القوة فيكون لأحدهم القدرة على السيطرة والاعتداء لقوته سواء جسديا أو من حيث الشخصية، فعلى الأهل التدخل لمنع الظلم والتنكيل بالأكثر ضعفا، ويكون التدخل وفقا للخطوات التالية:
أ. “وقف إطلاق النار”، فيفضل عدم إجراء حديث ومحاولة فهم سبب الخلاف أو اقتراح الحلول في حين ما زال الشجار مستمرا بين الإخوة، وإنما على الأهل الاهتمام بإبعاد الأطراف الواحد عن الآخر ومن ثم الانتقال للخطوة الثانية.
ب. يطلب الأهل من كل طرف أن يوضح ما حدث حسب وجهة نظره واقتراح الحل المناسب كيفما يراه وبذلك يتعلم الأطفال أسس التقاسم والمشاركة والتنازل ومراعاة احتياجات الواحد للآخر.
ج. في حال وجود اختلافات مستمرة ومتكررة لا يستطيع الأهل معالجتها أو في حال أن الأخوين لم يقدما التنازلات أو الاقتراحات لحل الإشكال القائم بينهما، فيمكن للأهل أن يقدموا على فصلهما ووقف فعاليتهما المشتركة وبعد هدوئهما وقبولهما إعادة الحديث بينهما والاتفاق، عليهما فهم أنه لا بد أن يبديا استعدادا للتنازل والتعاون وضبط أنانيتهما.
ت. استعمال المكافأة والتشجيع: من المفضل أن لا يهتم الأهل بالتصرف السلبي للأولاد فقط وإنما يجب أن يهتموا بتصرفاتهم الايجابية، فإذا قاموا بفعل جيد أو أبدوا تعاونا الواحد مع الآخر أو امتنعوا فترة من الزمن من الشجار، فيجب أن نشجعهم بالمكافاة وإن كانت بالهدايا الرمزية أو اصطحابهم لأماكن يرغبون بها، وبذلك نشعرهم بأننا مهتمين بهذا التعاون بينهم ومقدرين له.
ث. محاسبة المعتدي: في حالة اعتداء أحد الأطراف على الآخر وإيذائه، فعلى الأهل محاسبته وتحميله مسؤولية تصرفه ومعاقبته على ذلك، فمثلا إذا كسر لعبة أخيه عليه إعطاؤه لعبة بديلة لها أو أن يشتري له لعبة أخرى من مصروفه الشخصي.
ومن الجدير ذكره أنه توجد بعض الحلول الوقائية التي قد تخفف من حدة الشجار أو تمنع وقوعه أصلا، وعلى الأهل أن يحاولوا اتباعها كمثل:
أ. عدم ترك أوقات فراغ للأبناء يتشاجرون فيها: فإن من شأن مثل هذا الفراغ أن يولد الاحتدام والمناوشات فيما بينهم، لذلك على الأهل ملء أوقات فراغ الأطفال بالفعاليات وما إلى ذلك.
ب. على الأهل التعامل بهدوء مع شجار الأبناء: كذلك عدم المبالغة في التحدث عنها لأن هذا الأمر قد يجعل الأولاد يفهمون بأن هذه الشجارات ملفتة للنظر وبهذا فسيستعملونها بين الحين والآخر لأثارة اهتمام الأهل.
ت. استعمال وسائل شتى للتقريب بينهم واعطاؤهم إيحاء لسبل حل الخلافات بينهم مثل رواية القصص لهم التي تتناول الخلاف بين الإخوة أو الاصدقاء.
ث. على الأهل أن يشجعوا الإخوة على إظهار محبتهم لبعضهم البعض، سواء بالكلام أو بإحضار الهدايا او مشاركتهم في أغراضهم وغيرها، كذلك فيمكن تعزيز هذا التقارب عبر اقتداء الإخوة بأهلهم إذا ما كانوا هم أنفسهم قريبين مساعدين لإخوتهم محبين لهم.
ج. على الأهل أن يعلموا أبناءهم قيمة التعاون بين الأسرة وتنمية روح الجماعة، فيجب أن يعي أطفالنا بأن وجودهم ضمن إطار عائلة واحدة لم يكن محض الصدفة وإنما هو أمر ضروري لكل واحد من أفراد العائلة الذي يفيد الآخرين ويستفيد منه في الوقت نفسه، لذا فمن المهم أن يهتم الواحد بالآخر ويقدم على مساعدته ومساندته.
ح. التعامل بعدل: لعل من أهم أسباب الوقاية من شجار الإخوة أو على الأقل التخفيف من حدتها، تعامل الأهل مع أبنائهم بعدل ومساواة دون تفرقة ومقارنة بين الإخوة فهذا يخمد نيران الغيرة ويخفف من حدة الشعور بالغضب وبالاستياء بين الإخوة بينهم.
خ. إلى جانب بناء روح الجماعة والتعاون بالأسرة، على الأهل تشجيع أطفالهم على الاستقلالية وعدم ربط الإخوة الواحد بالآخر في كل الأوقات. فإن إيجاد اهتمامات مختلفة لدى كل واحد من الأبناء ومنع الاحتكاك الدائم بينهم يمكن أن يحد من شجار الإخوة بشكل ملحوظ.
في النهاية، نجمل القول بأن خلافات الإخوة هي أمر طبيعي وقد يكون مفيدا ونافعا في بعض الأحيان لأنها تكسب الأطفال القدرة على صقل مهارات الدفاع عن النفس والتعبير عن المشاعر ناهيك عن طرق وأساليب حل النزاعات والخلافات. فإن أحسن الأهل التعامل مع هذه الشجارات فسوف يحظيان بأخوين محبين قريبين بالرغم من أنهما يتنازعان من حين لآخر، إلا أنهما قادران على التعبير عن مشاعرهما ومقاومة الاعتداءات عليهما وإيجاد حلول الوسط والتنازلات لكي يستمرا في العيش معا بسلام وأمان.