الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني؟ شـــيء من التـــاريــخ…
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
مقدمة…
هذه مقالات أروم بها تبصير القارئ الكريم والقارئة الكريمة بما يدور حولنا نحن أبناء الداخل الفلسطيني وعموم شعبنا الفلسطيني في أرضه المباركة من البحر إلى النهر، خاصة مع اعتلاء التيار الديني الصهيوني واليمين الديني المتجدد سدة السلطة والحكم في إسرائيل بعد عقود من شراكاته المباشرة وغير المباشرة في إدارة دفة الحكم وتغلغله البطيء والمحمي سلطويا في كافة مفاصل الدولة، وهي محاولة من كاتب هذه السطور استجلاء الدور المنوط هذه اللحظات بالتيار الديني الصهيوني سواء فيما يتعلق في حفاظه على الوجود اليهودي-الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية ومساعيه التي لم تتوقف منذ مطلع هذه الألفية لتحقيق هذه الغاية التي تناولت بعضا منها في مقالتي السابقة (الصهيونية الدينية والمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني، المدينة عدد 1310 الصادر يوم الجمعة الموافق 25/6/2021، ص42) أو ما سيحدث معنا كفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وكيف ستكون هذه السياسات في ظل حكومة جمعت للوهلة الأولى متناقضات أيديولوجية تقاطعت مصالحها بشراكة مع مكون سياسي عربي-إسلامي له وجوده الكبير على الساحة العربية في الداخل الفلسطيني في ملمح غير مسبوق في تاريخ جدل العلاقة بين تلكم الأيديولوجيات التي قربت وقاربت المصالح السياسية على الأيديولوجية كما يتضح من المشهد السياسي للوهلة الأولى.
شيء من التاريخ..
تميزت الصهيونية الدينية منذ بدايات طريقها باعتبارها جزء من حركة “أحباء صهيون” في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، وذلك باستعدادها لتقديم تنازلات حقيقية حول عديد القضايا الدينية من أجل الحفاظ على إطار صهيوني مشترك للمتدينين والعلمانيين، مقدمة في تصوراتها الدينية أولوية تخليص اليهود من العذابات التي يتعرضون لها في مواطن مختلفة من العالم على القضايا الدينية ذات الصلة باليهودي فردا ومجتمعا سواء في الجيتو أو الجماعة -كهيلا- أو باختلاطه بالآخر “الجوي” في سياقات مرحلة التحرر “האמנציפציה- Emancipation” التي طرحها الأوروبيون في ثنايا الخروج من “الجيتو” ضمن سياسات الانفتاح التي انتهجتها تلكم القيادات تحت مظلات المصالح الأوروبية الكونية وسُبل استغلال اليهود لتحقيق الأهداف الكولونيالية (الاستعمارية) الكونية ودفع أوروبا لتكون مركز العالم وتسيد الرجل الأبيض.
في نقطة البحث عن الخلاص اليهودي الجماعي تقاطعت رؤية حاخامات الصهيونية الدينية (همزراحي) مع بنيامين هرتصل مؤسس الحركة الصهيونية الذي نادى بخلاص اليهود عبر البحث عن وطن قومي لهم، تجلى عبر طروحات التيار الصهيوني الديني في فلسطين “أرض إسرائيل”. هذه التصورات طرحها وتقدم بها الحاخام يتسحاق يعقوب راينس مؤسس حركة همزراحي عام 1902 عاملا على تأسيس معسكر من المتدينين اليهود يحمل أفكاره ويدعم الحركة الصهيونية (العلمانية) وقد حوت أفكاره بعضا من قيم الخلاصية المسيحيانية المتعلقة بمفهوم الخلاص الأخروي، عاملا على علمنة هذا المفهوم الخلاصي (الأخروي-أي من الآخرة أو/ وأحداث آخر الزمان، كما في المنظومات اليهودية مما ورد في التوراة والمشناة والتلمود واقوال الحاخامات) مستندا إلى مرويات فقهاء وحكماء اليهود فيما عُرف بالأكاده (الاكاده عرفها افيجدور شينان في مقدمة كتاب سيفر هآكاده: “أنها روح الامة الإسرائيلية على مدار سيرتها، سيرورتها وحياتها وشكلت النمط الأدبي الرئيس الذي سيطر على عالم الإبداع الشعبي والشخصي الحر للأمة الإسرائيلية لعدة قرون”. وفي جوهرها هي كل ما كتبه فقهاء وحكماء اليهود مما ليس له صلة بالشريعة اليهودية من مثل القيم الاخلاقية، والحكم والأفكار والقصص والأمثال والتوجيهات، وأعتقد أنّ الحاخام راينس اعتمد توجيهات الآكاده لتجسير الهوة بين طروحات الحاخامية المتشددة التي رأت بالحركة الصهيونية أداة لعلمنة هوية اليهود الدينية وضربة للالتزام الديني بفرائضه وقيمه، مما يهدد وجوده بما في ذلك إقامة إسرائيل، وحاجج هذا القول حاخامات الصهيونية الدينية أمثال شموئيل موهلايبر وراينس إذ زعموا أنّ أهمية العمل المشترك مع الصهيونية تكمن في تحقيق الهجرة (عالياه) إلى أرض فلسطين (آرتس يسرائيل) وإقامة الدولة اليهودية (همديناه هيهوديت) وهذه الأخيرة أي إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين أكثر أهمية من التخوفات التي يبديها الحاخامات والفقهاء اليهود سواء من التيار الديني الأرثوذكسي أي الحاريدي، أو التيار الديني الصهيوني من مثل تغلغل العلمنة الى حيوات الجماعات المتدينة من التيارين الحاريدي والصهيوني الديني.
لست في هذه المقالات باحثا جدية وجدوى ومدى تغلغل الصهيونية العلمانية في التيار الصهيوني الديني وماهيات التأثير الذي حصل عليه والعكس صحيح، ومع ذلك ثمة ضرورة للإشارة إلى أنّ عملية المثاقفة بين التيارين حدثت ولا تزال إلى هذه اللحظات وتأثيرات التيار العلماني على الصهيونية الدينية كانت هائلة وكبيرة، ولكن في الوقت ذاته، بقي هذا التيار قائما وثابتا ليتحول إلى حالة مركزية في العشريات الثلاثة الأخيرة في مسيرة إسرائيل، ويصبح الرقم الصعب في معادلات السياسة الإسرائيلية، والتناقض والملفت للنظر، أنَّ هذا التيار تعاظمت قوته وانساح على أرض فلسطين التاريخية، متقدما ومعززا من وجوده وتأثيره بعد مقتل رابين، مما يشي بضرورات فهم هذا التيار على ضوء الأحداث التاريخية في تعرجاتها السياسية والاجتماعية والإيديولوجية، وعلى ضوء منطقي القوة والمغالبة التي استدعاها هذا التيار في محايثات علاقاته مع الآخر الإسرائيلي العلماني والحاريدي حيث أحضر النص الديني والأكادي، من اكاده (انظر النص السابق- اساطير، Legend) بقوة لتوطيد مكانته ضمن جدل العلاقات القائم بين مكونات المجتمع الإسرائيلي.
الأحداث التي عصفت في منطقتنا خاصة الحروب العربية-الإسرائيلية وكذلك مسارات السلام، أثّرت مباشرة على العلاقات البينية الإسرائيلية بما في ذلك التيارات الدينية والعلمانية على حد سواء، ومثال ذلك قيام إسرائيل عام 1948 فكما اعتُبرَ قيام إسرائيل نصرا للحركة الصهيونية العمالية العلمانية، اعتبر في ذات الوقت إنجازا للتيار الديني الصهيوني المشارك في هذا الإنجاز (نقوم بتجريد هذا المعنى، أي قيام اسرائيل على انقاض الشعب الفلسطيني ونكبته، عن ما أحاط بقيام إسرائيل وتداعيات ذلك سواء تعلق بالكارثة اليهودية ومضاعفاتها وما بعدها أو بحيثية قيام الدولة وما رافقها من علاقات استعمارية)، وأحرج التيار الحاريدي الذي سارع للانضمام الى الحكومات المتتالية، وكما حرب 1967 وانتصار اليهود واحتلال مناطق الوصاية الهاشمية والمصرية، أي أراضي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، فضلا عن سيناء والجولان، واعتبار ذلك معجزة إلهية ومنحة ربانية في تصورات التيار الصهيوني الديني، الذي شرع في العمل على الاستيطان في تلكم المناطق يشاطره في ذلك التيار العمالي العلماني. وعلى العكس تماما ما حدث بعد اتفاقية كامب ديفيد وخروج اليهود من سيناء ففي عام 1981 قامت حركة منع الخروج من سيناء وقادها أوري اليتسور، وتشكلت من علمانيين ومتدينين، كانت حركة غوش امونيم في مركزها، ففيما أكدَّ المعترضون والرافضون للإخلاء على البعدين الوطني والديني، تطورت أزمة العلاقة بين بيغن وقيادات غوش أمونيم في هذه القضية، أي قضية الاخلاء سواء في مسألة سيناء، ولاحقا في اخلاء غوش قطيف، حيث شكلت هذه الأخيرة ضربة قاسمة للمشروع المسياني للصهيونية الدينية، لتكتشف الصهيونية الدينية وللمرة الأولى بعد احتلالات عام 1967 حجم الهوة السحيقة بين الأيديولوجيا الصهيونية الدينية والايديولوجيا اليمنية الجابوتنسكية، فيما يتعلق في الخطاب السياسي-الأيديولوجي المتعلق بالالتزام بأرض إسرائيل، وهذا التناقض في جدل الخطاب بين اليمين الصهيوني العلماني المتوشح بالدين وبين الصهيونية الدينية، كشف عن بعدين متناقضين لاحقا تمَّ تجاوزها لصالح الخطاب الصهيوني- الديني، وتحديدا في عصر نتنياهو، هذين البعدين تجليا أساسا في أن خطاب اليمين الأيديولوجي يعتمد مفهوم السيادة الوطنية فيما يعتمد الخطاب الصهيوني الديني/غوش امونيم، الخطاب المؤسس على الميثولوجيا الدينية التي تعتمد السيادة الإلهية على أرض فلسطين، حيث لعبت الاكاده دورا مركزيا في تلكم المرويات، وهو ما يعني أنّ الخطاب الأول، وإن كان أيديولوجيا، يملك مساحة من التنازلات لصالح بقاء الوطن القومي لليهود، وهذا ما فعله لاحقا شارون في غزة مع تفاصيل ذات بُعد سياسي-أمني، فيما رأت الصهيونية الدينية في التنازل عن شبر من الأرض المحررة حيث تتحول هذه الأرض وفقا للمسيانية الخلاصية للصهيونية الدينية من مجرد أرض مقدسة تم تحريرها إلى أرض لها ماهية روحانية، ولذلك فالتنازل عنها وفقا لهذه العقلية المؤدلجة، خيانة وتراجع ونكوص، وقد تبين فيما بعد أن الجمهور الإسرائيلي في معظمه لم يكن مناصرا لهذه الخطوة وفي رؤية تاريخية لمجمل الاحداث المتعلقة بالإخلاء من سيناء، يمكن القول إن الاحتجاجات والاعتصامات التي قادتها حركة غوش امونيم في سيناء “مستوطنة يميت” اعتمدت البُعد الديني-المسياني لتبرير الاعتصامات والاحتجاجات، بزعمهم أن سيناء جزء من أرض اسرائيل الكاملة، وقد فشلت جميعها ليس بسبب الموقف الحكومي الذي غلّب مصلحة استراتيجية بالصلح مع إسرائيل مع دفع ثمن بخس، قياسا لهذا الإنجاز فحسب بل وبسبب المجتمع الإسرائيلي الذي رأى بخطوة حكومته في سلام مع مصر أكبر وأقوى دولة عربية فرصة لا يمكن تعويضها ولو كان الثمن مخالفة نصوص دينية.