هل أجاز شيخ الاسلام ابن تيمية قصر الصلاة في مسافة أقل من (81 كم)؟
تعلم الفقه وأنت في بيتك
أ.د. مشهور فوّاز رئيس المجلس الإسلامي للإفتاء
يُنسَبُ لشيخ الإسلام ابن تيمية أنّه أجاز القصر في كلّ ما يُطلقُ عليه عرفاً اسم السّفر؛ وبناءً على ذلك أجاز بعض الاخوة الأفاضل من أهل العلم المعاصرين قصر الصلاة في سفرٍ مسافته قصيرة كالسّفر من أم الفحم إلى النّاصرة التي لا تتجاوز 30 كيلو أو أقل أو كالسّفر من أم الفحم إلى مدينة حيفا التي لا تصل إلى 50 كيلو متر على اعتبار أنّ الإمام ابن تيمية أجاز ذلك.
وكي نُنصِف شيخ الاسلام ابن تيمية ونحرّر قوله بشكلٍ علميّ لا بدّ من الرّجوع إلى كتبه ومعاينة المسألة من كتبه.
والحقيقة عند تحرير قول الشيخ ابن تيمية وجدنا أنّ مذهبه في القصر في كثير من الأحيان أشدّ من قول جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة الذّين لم يجيزوا القصر في سفر أقل من 81 كم.
ذلك أنّ السّفر عند ابن تيمية يُحدّد بالزمان والمدة التي سيمكثها في سفره لا بالمسافة فهو يقول مثلاً: لو أنّ شخصاً ركب فرساً سريعاً وقطع مسافة طويلة، لا تقطع عادة إلاّ في يومين، ورجع في نفس اليوم فلا يجوز له أن يقصر.
وبالمقابل لو قطع مسافة قصيرة بوقت طويل كيوم وليلة بحيث يحتاج فيه إلى زاد ومزاد فإنّه يجوز له القصر؛ فجعل علة القصر هي طول الزمان الذي يستغرقه في سفره وليست المسافة.
وإليكم نصوص ابن تيمية في مسألة السفر المبيح للقصر:
جاء في مجموع الفتاوى، لابن تيمية: “وعَلَى هَذَا فَالْمُسَافِرُ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا لِقَطْعِهِ مَسَافَةً مَحْدُودَةً وَلَا لِقَطْعِهِ أَيَّامًا مَحْدُودَةً بَلْ كَانَ مُسَافِرًا لِجِنْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ وَقَدْ يَكُونُ مُسَافِرًا مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا مِنْ أَبْعَدَ مِنْهَا: مِثْلَ أَنْ يَرْكَبَ فَرَسًا سَابِقًا وَيَسِيرَ مَسَافَةَ بَرِيدٍ ( في أيامنا يساوي 22 كيلو متر ) ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ سَاعَتِهِ إلَى بَلَدِهِ فَهَذَا لَيْسَ مُسَافِرًا ، وَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى حَمْلِ زَادٍ وَمَزَادٍ كَانَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ سَفَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ وَلَوْ رَكِبَ رَجُلٌ فَرَسًا سَابِقًا إلَى عَرَفَةَ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ إلَى مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا”. (انظر: مجموع الفتاوى، 24/119).
قلتُ: بناءً على هذا القول لو سافر شخص في أيامنا بالطائرة من دولة إلى دولة ورجع بنفس اليوم فلا يُرخص له بالقصر!!
يقول الشيخ ابن جبرين وهو من أتباع مدرسة شيخ الاسلام المعاصرة تعليقاً على كلام ابن تيمية: “ثم في هذه الأزمنة يكثر التساهل في الرخص كالذين يسافرون ساعتين أو نصف يوم نرى أن هذا ليس بسفر، إذا كان مثلاً يذهب في أول النهار ثم يرجع في الليل فلا يسمى سفراً، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر: أن السفر يحدد بالزمان لا بالمساحة، فهو يقول: لو أن إنساناً قطع مسافة طويلة لا تقطع إلا في يومين ورجع في يومه فلا يقصر، ولا يترخص، ولو قطع مسافة قليلة في زمن طويل فإنه يترخص فجعل العلة هي طول الزمان، ولم يكن في زمانه أسرع من الخيل، فضرب بها مثلاً، فقال: لو ركب إنسان فرساً سباقاً وقطع مسافة لا تقطع إلا في يومين ثم رجع في يومه فلا يترخص؛ فهو جعل العبرة بالزمان لا بالمساحة. (شرح أخصر المختصرات، لابن جبرين، ج9 / 27).
وقال الشيخ ابن تيمية في موضع آخر من كتاب مجموع الفتاوى: “فالمسافة القريبة في المدة الطّويلة تكون سفراً والمسافة البعيدة فى المدة القليلة لا تكون سفراً فالسفر يكون بالعمل الذى سُمّي سفراً لأجله والعمل لا يكون إلاّ في زمان فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سُمّي مسافراً وإن لم تكن المسافة بعيدة وإذا قصُر العمل والزّمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يُسمّ سفراً وإن بعُدَتْ المسافة”. انظر: (مجموع الفتاوى (24/135)).
وبهذا يتبيّن أنّ شيخ الاسلام ابن تيمية مذهبه في زماننا أشدّ من مذهب الجمهور القائلين بأنّه لا يجوز القصر في سفر أقل من 81 كم ذلك أنّه في ظلّ وسائل النّقل الحديثة قد يسافر الشّخص فوق 100 كيلو متر ويرجع بنفس اليوم ولا يحتاج لزاد ومزاد.
لذا وجدنا كبار مشايخ مدرسة الامام ابن تيمية المعاصرة كالشيخ ابن باز قد أرشد ونصح بالتقيد بمسافة قريبة من مسافة الجمهور وهي كما قال: ما يقارب 70 – 80 كيلو وفي مواضع أخرى وجدته قد حدّد المسافة بثمانين فما فوق. وعلّل الشيخ ابن باز ذلك بقوله: “وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ السّفر كلّ ما يعدّ سفراً، فإذا احتاج إلى زاد ومزاد، هذا يعدّ سفر وإن لم يبلغ سبعين كيلو ولم يبلغ يوم وليلة إذا كان يحتاج إلى زاد وإلى مزاد -إلى كخمسين كيلو وأربعين كيلو ونحو ذلك في المطية والمشي على الأقدام؛ أمّا السيارة فإنّ حالها غير حال الأقدام، وغير حال المطية كما هو معلوم بسبب السّرعة، فلهذا، إذا احتيط في هذا وصار السّفر ما يعد سبعين كيلو تقريباً أو ثمانين كيلو يكون هذا أقرب وأحوط، وهو موافق لما قرره العلماء سابقاً من اليومين القاصدين”. انتهى كلام ابن باز نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ ابن باز.
وختاماً: ننصح الاخوة والاخوات الاحتياط للعبادة التي هي تعكس مدى علاقتك بمن فرض هذه العبادة وبالوقت نفسه من أراد أن يخالف فتوى جماهير علماء الأمة بمسألة القصر فالأمر يعود إليه وما علينا إلاّ النّصح والبلاغ، ولكن لا ينبغي أن ينسُبَ فعله وفتواه لابن تيمية بعد هذه التّجلية والتّوضيح لمذهبه من مصادره.
وليعلم الجميع أنّنا ما كتبنا هذا المقال للردّ على غيرنا فهذا غير وارد بالحسبان نهائياً فنحن نؤمن بلغة الحوار المباشر مع إخواننا من أهل العلم وليس لغة الردود التّي لا يُجنى من ورائها إلاّ وحَرُ الصّدور وتوسّع دائرة الخلاف وتباعد بين القلوب فالعلم رحِمٌ بين أهله كما يقال.
فما حملنا على هذا التّوضيح إلاّ النّصح والمحبة للجميع وحرصاً وطمعاً أنّ تكون عبادتنا على مراد الشّارع وكلّنا أمل أن نتجاوز الحديث عن هذه المسائل التّي أُشبِعَت بحثاً لنتفرغ لقضايا كبرى في حياتنا.