سيف القدس يغادر غمده في رمضان
محمد خليل شباط
حمل شهر أيّار بين ثناياه تطوّراتٍ ذات وزنٍ ثقيل في ملف حقيقة الصّراع الفلسطيني- الإسرائيلي، عندما انتشر خبر محاولات قوّات الاحتلال المتجدّدة للتسلّط على منازل الفلسطينيّين في حيّ الشّيخ جرّاح. لم يكن من الغريب أن تكون الشّرارة الّتي أعادت الموقف الطّبيعيّ على هذه الأرض في السبعين عام الأخيرة إلى الواجهة منبثقةً من القُدس، عاصمة فلسطين المحتلّة وهدف الاحتلال الإسرائيليّ لتثبيت آخر مسمارٍ في نعش هذا الملفّ.
أدّى انتشار خبر محاولات التّهجير إلى تصعيدٍ فلسطينيٍّ مقاوم لسياسات الاحتلال، بدايةً بأهالي الشّيخ جرّاح نفسه الّذين صمدوا -وما زالوا حتى اللحظة- على حقّهم رافضين كلّ أشكال القمع واغتصاب الحقوق الّتي تمارسها إسرائيل في حقّهم بالتصرّف بحريّةٍ في ممتلكاتهم، مرورًا باستبسال المصلّين في المسجد الأقصى المبارك ومنع المستوطنين من اقتحامه في عيدهم المزعوم المسمّى ب”يوم أورشليم”، دخول غزّة على الخطّ فيما اختارت تسميته “عمليّة سيف القدس” كإجابة على الاعتداء الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى المبارك، تلاها تلبية النّداء بانتفاض عنيف في مدن وقرى الدّاخل الفلسطينيّ المحتلّ عام 1948 في مشهدٍ يذكّر بانتفاضة الأقصى عام 2000 وانتهاء المشهد بدخول الضفّة الغربيّة في صفّ أبناء شعبها المقاوم، الضفّة الّتي تعاني من احتلالين: الإسرائيليّ واحتلال السّلطة القمعيّة برئاسة “محمود عبّاس” عرّاب التّنسيق الأمني ووكيل إسرائيل المحافظ على أمنها من مقاومي الضفّة الغربيّة من شتّى الفصائل، وبذل عديد الشّهداء والأسرى في سبيل ذلك.
أمّا نتائج هذه الجولة من الاقتتال بين أصحاب الأرض الفلسطينيين من جهة والغزاة الإسرائيليين من جهة أخرى فكثيرة، وأمّا أهمها فكان وحدة الصفّ الفلسطينيّ في مواجهة إسرائيل، الأمر الّذي جعل الاحتلال يستشرس في تعامله مع المدنيّين العزّل في محاولةٍ منه لتحسين الصّورة الهزيلة الّتي ظهر بها في هذه المواجهة الّتي خرج منها خاسرًا في رأي الكثيرين حتّى من الإسرائيليّين، الّذين شهدوا نجاح المقاومة في فرض نفسها على السّاحة بنديّة وشجاعة في مواجهة أقوى دول الشّرق الأوسط عسكريًّا وسياسيًّا.
سطّر شهر رمضان من العام 1442 للهجرة الموافق لشهر أيّار من العام 2021 للميلاد، مشهدًا تاريخيًّا وبطوليًّا جديدًا في تاريخ هذه الأمّة وتاريخ هذا الشّعب. خرج النّاس من الأحياء والبيوت ومن مسجد فلسطين العظيم برايةٍ واحدة وصوتٍ واحد في مشهدٍ قديمٍ متجدّد. ولكن ما خطف أنظار الجميع كان الأداء العسكريّ والسياسيّ المتطوّر للمقاومة الفلسطينيّة في غزة، الّتي نجحت في إلقاء الرّعب في صفوف العدوّ الإسرائيليّ. المقاومة الّتي قصفت تل أبيب، مدينة الاحتلال المدلّلة الّتي يفتخر بها، برشقاتٍ متتابعةٍ من الصّواريخ المطوّرة في غزّة، المقاومة الّتي قدّمت صاروخ “عيّاش 250” على اسم المهندس الشّهيد يحيى عيّاش الّذي أذاق الاحتلال الويلات، الصّاروخ الّذي وصل مداه إلى 250 كيلومترًا كسابقةٍ في ترسانة المقاومة الفلسطينيّة، صاروخٌ أحيت به المقاومة ذكرى المهندس وأحيَت به همم الفلسطينيّين والوطن العربي والإسلامي كذلك. ما قامت به غزةّ في هذه الجولة على الصّعيد العسكريّ والسياسيّ كان سابقةً في تاريخ مواجهات المقاومة الفلسطينيّة لجيش الاحتلال، نسفت فيه المقاومة أسطورة القبّة الحديديّة الإسرائيليّة الّتي فشلت في إيقاف أكثريّة الصّواريخ المنطلقة من غزة فيما وصفه النّاطق باسم المقاومة “أبو عبيدة” بأنّ ضرب الاحتلال لديهم: “أسهل من شربة ماء”، رافعًا به أسهم المقاومة ومعنويات كلّ من يقف في الجانب الفلسطينيّ، أحداثٌ مبشّرةً بمستقبلٍ غزيرٍ بالمفاجآت في تاريخ المواجهات بين الطّرفين، طرفٍ يملك الاقتصاد والجيش والمعدّات ودعم الدّول العظمى وطرفٍ يملك الانتماء للأرض وللحقّ وشعبًا مؤمنٌ به وبحقّه.
الآن وبعد اتّفاق وقف إطلاق النّار مع غزّة، بدأت إسرائيل في ملاحقةِ كلّ فلسطينيٍّ تشكّ بأمره، مستعينةً بالإعلام لنشر الخوف والقلق بين صفوف الفلسطينيّين المقدسيّين وعرب الدّاخل عام 48′ بالذّات، في حملة اعتقالاتٍ كبيرة شهدت تلفيق الكثير من التّهم الأمنيّة واستخدام العنف المفرط تجاه المدنيّين العزّل، لكي تُعيد هيبتها من جديد على هذه الأراضي ولو كانَ ذلك بالظّلم والعدوان على الأبرياء العزّل، كما عوّدتنا.
الآن وبعد مضيّ عدّة أيّام على وقفِ إطلاق النّار، باشرت إسرائيل بالعمل في الجهر والخفاء، مباشرةً وعن طريق وكلائها المزروعين بين صفوف الفلسطينيّين، بتطبيق سياستها المفضّلة في تفكيك النسيج الوحدويّ المتجدّد الّذي أنهكها في المواجهة الأخيرة. عادت المدن والقرى الفلسطينيّة في الدّاخل لتشهد استفحال عائلات الإجرام في سفك دماء الأبرياء بعمليات اغتيالٍ مشبوهة، “لم تتمكّن” إسرائيل من حلّها، جميعها ضحاياها عرب فلسطينيّون، كما هو متوقّع.
أمّا الضفّة الغربيّة فقد شهدت حالات مماثلة لتفكيك الوحدة والعمل على انقسام الموقف العام، كان أبرزها انتشار أخبار مفادُها شتم الرّئيس الرّاحل “ياسر عرفات” الّذي يعتبر بطلًا مقاومًا لدى غالبيّة الفلسطينيّين في مظاهرة حاشدة في رام الله، الأمر الّذي يرفضه منطق الواقع والتّاريخ، في هذه البقعة الجغرافيّة من أرض فلسطين على الأقلّ.
ما تزال آلة البطش الإسرائيليّة تقمع المصلّين في المسجد الأقصى، وتوفّر الحماية للمستوطنين وتعطيهم الإذن باقتحامه، وما زالت تمنع دخول الفلسطينيّين القادمين لنصرة أهالي الشّيخ جرّاح إلى داخل الحيّ، سامحةً بدخول أيّ مستوطنٍ إلى الحيّ بكل أريحيّة، لم تتوقّف أذرع الاحتلال من زيادة عدد المعتقلين في الدّاخل الفلسطيني حتّى وصل عددهم إلى أكثر من 1550 معتقل أغلبهم محتجزون بدون لوائح اتّهام بحجّة التّحقيق، ما زالت إسرائيل تمارس دورها كدولة استعماريّة محتلّة غربيّة، وما زال الشّارع الفلسطينيّ يمارس دوره بالصّمود والمقاومة رافضًا الخضوع ومتشبّثًا بالوحدة الّتي عزّزت من آماله بغروب شمس الاحتلال عمّا قريب، والآن وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، ينادي الواجب بضرورة تعزيز هذه الوحدة والتّعالي عن كلّ أسباب الانقسام والوقوف صفًّا واحدًا خلفَ القدس والأقصى.