الساسة العرب في الداخل الفلسطيني وترويج العبودية…عبيد القصر”3″
صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
في الوقت الذي تلتهب فيه مدينة القدس وتشهد حالة تصاعدية من التوتر تُنذر بتفجر الوضع ليس في مدينة القدس وحدها بل وفي عموم فلسطين التاريخية -لنتذكر الانتفاضة الثانية وهبة القدس والاقصى- تتخاذل النخب السياسية المؤمنة بالتعاطي السياسي من خلال اللافتات الإسرائيلية، في اتخاذ موقف شجاع اتجاه مثل هذه القضية المركزية والجوهرية، بل وسمعنا أن قائمة عربية أكد قادتها في الغرف المغلقة في حواراتهم مع “أسياد القصر” أنه لا تعنيهم القضايا الجوهرية كالقضية الفلسطينية وقضية القدس والمسجد الأقصى المبارك، وهو ما يؤشر الى حجم التراجع في الفهم السياسي المُؤَسس على مصالح الجماهير التي يمثلها هذا النائب أو تلكم القائمة، فمن ظنّ أنّ جماهير الداخل الفلسطيني كالقطيع يهمها البطن والفرج وما بينهما من رغد الحياة، فقد أبعد النجعة في فهم هذه الجماهير وخانه ذكاؤه السياسي والاجتماعي والمجتمعي.
في ظل ما ذكرت، فقد بات الحديث عن تشويه الوعيين السياسي والأخلاقي على الساحة السياسية المحلية ظاهرة لا تخطئها عين الرقيب، ولا نظرات المحلل السياسي، ومن تابع سيل التصريحات الصادرة من أطراف سياسية مختلفة في الداخل الفلسطيني سيصل الى قناعات أنَّ قلاعنا الداخلية في فلسطين التاريخية باتت مهددة، ليس من الإسرائيلي بقدر ما هي مهددة من الساسة المٌشَوَهِينَ سياسيا وفكريا.
تتجلى معطيات التشويهين السياسي والأخلاقي- السياسي في ثلاثيات الانبطاح والإنفلاخ والتمرغ بالتراب، لإرضاء السيد ومجرد التوصية على أي كان من ساكنة القصر، معناه أن العبودية المختارة، قد أخذت مفاعيلها العملية في حيوات هؤلاء، سياسيا واجتماعيا، وما عادت ثمة حاجة في تبرير مثل هذه الخطوات، وإن وجدنا بعضهم يبررها تحت لافتات السياسة الشرعية ومنطق المصلحة وضرورات التأثير، وأن يكونوا لاعبين في داخل القصر، فقد ملَّ هؤلاء الساسة العمل في البيدر أو الحقل، وتتعاظم الحاجة عندهم للعمل من داخل القصر، ظنّا منهم أنهم سيحدثون فارقا في جدل العلاقة بين الداخل الفلسطيني والإسرائيلي.
يُشَكل اللقاء الذي عُقدَ بين النائب منصور عباس مع كبير حاخامات حركة “يامينا” فصلا جديدا في جدل العلاقة القائم في بلادنا منذ عام 1948 بين ساكنة القصر وساكنة البيدر، وعلى الرغم من أن نتائج المحادثة التي دارت على مدار ساعتين لم يعلن عن تفاصيلها، وعلى الرغم من أن الإعلام المقرب من نتنياهو أشار الى أن اللقاء عُقِدَ بضغط من نتنياهو لإقناع ذلك الحاخام بقبول تشكيل حكومة تتكئ على أصوات القائمة الموحدة، إلا أن النتائج كانت على عكس التوقعات، مما يعني أن الأيديولوجيا الدينية-الصهيونية انتصرت على البراجماتية والمنطق النفعي في العمل السياسي الذي يمارسه منصور عباس.
تشويه العلاقة بين الدين والسياسة
ما يقلقني في ممارسات القائمة الموحدة ليس فلسفتها السياسية فمحاججتها ممكنة ومطلوبة شرط الأدب قي الحوار، وعقلنة المعطيات والتعاطي مع الأحداث بعقلية واعية منفتحة وناقدة على بصيرة دون تشويه أو تخوين أو تسفيه. ما يقلقني هو مساعي الإعلام الإسرائيلي للربط المتعمد بين القائمة الموحدة وجماعة الإخوان المسلمين وصمت القائمة على هذا الربط، دون أن تتنصل منه، في الوقت الذي يتنصل رئيسها من عمليات ومواقف للفلسطينيين الرافضين للاحتلال، وكأن القائمة تتواطأ مع المؤسسة الإسرائيلية في تشويه هذه الجماعة، التي شهد لها العدو قبل الصديق بصدقيتها وإن اختلفنا معها في مواقف وتفاصيل، هذه الجماعة التي تعاني من ملاحقات وقتل مُبرمج وذبح منظم في عديد دول العرب وغير العرب، وهذا الربط المتعمد هو في جوهره لتشويه صورة هذه الجماعة التي قدّمت قوافل من الشهداء من لدن مؤسسها الشيخ حسن البنا ومرورا بمرشدها الذي اغتيل في سجونها الشيخ مهدي عاكف، فضلا عن أكثر من أربعين الف معتقل في مقدمتهم العلامة البروفيسور محمد بديع الذي يقبع في سجون السيسي، يُرادُ ذبحها وإخراجها عن المشهدين السياسي والاجتماعي في عالمنا العربي، فهل القائمة الموحدة شريكة في هذه الجريمة. هذا ما انتظر توضيحه من قادتها.
ثمة أمر آخر يشكلّ خطرا قادما علينا في تشويه العلاقة بين الدين والسياسة، إذ يتم تسخير الدين لصالح السياسة تحت مظلة تفسيرات وتحليلات ذات بُعدِّ شرعي، وقد تمددت علاقات التشويه المتبادل بين الدين والسياسية سواء بتداخلهما أو بتوظيف احدهما للآخر، لتشكل أحد العلاقات الفارقة في فهم توليفات العمل السياسي على الحلبتين العربية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني والإسرائيلية، بكل تنوعاتها الأيديولوجية، وبالتالي صار الحديث عن دور عضو الكنيست في مجتمعه، سواء في عمله الوظيفي كنائب يعمل في بيت السيد أو كسياسي يعمل في البيدر/ الحقل، بناء على منطلقات محددة أملتها ظروف وجوده داخل قصر السيد، وما تعلق في انتخابات الكنيست (كحالة محايثة) ومخرجاتها، من المسائل ذات الأولوية في الفهم والتدبر.
وفي هذا السياق، ثمة حاجة لفهم دور أعضاء الكنيست العرب (كحالة محايثة فردية ومتعلقة حزبيا) في تعميق تعمية الوعي وحرفه عن مساراته الصحيحة تحت لافتات مختلفة، تبدأ من ضرورة ووجوب المشاركة في انتخابات الكنيست، وتنتهي بضرورات التأثير في صناعة السياسة كحرفة ممتهنة ذات طابع تخصصي من جهة، وكعلاقة جدلية مفهومة “ضمنا” في جدل العلاقة بين الانتخابات للكنيست والتأثير على القرار السياسي وحيوات الناس، باعتبار الكنيست الجسم الذي يسنّ القانون ويتابع أعمال الحكومة ويوجّه ويقَّدر وله من اللجان ما يمكن من خلالها التأثير من أجل مصالح الناس، أو العكس، إذ تتعالى وتتمايز في هذه التوليفات وما يُداخلها من تعقيدات سياسية ذات بُعد إجرائي، في الحفاظ على ساكنة الحقل والإبقاء على دورهم الوظيفي المؤسس منذ النكبة، عبيد البيدر، وهو ما يعني مزيد من سيطرة ساكنة القصر عبر أدوات جدية، توظف السيولة الحضارية الجارية ومُحدثات الحداثة وأخلاق السوبرماركت، وهو ما يعني المزيد من تشويه الوعي واستلاب منظومتي القيم الجامعة، لصالح قيم وافدة تحيل ساكنة البيدر الى عبيد يرتضون عبوديتهم ويشكرون سيد القصر على ما رزقهم من بهيمة الحداثة وصنم الحريات.
ثمة ملاحظة في جدل العلاقة القائم بين السياسي المتأسرل والعمل السياسي في البيدر، ففي البيدر سنجده يدغدغ العواطف لأنه يعتمد على الذاكرة القصيرة لساكنة البيدر، ذلكم أنه واحد منهم ويعلم احوالهم ومن أين تُأكل الكتف، وحين تتغول سلطة القصر على ساكنة البيدر، يرفع هؤلاء الساسة أدوات التخدير المباشرة، والتي يشاركهم فيها من هم خارج الكنيست من أحزاب وحركات وشخصيات، وتشكل مسألتي الاحتجاج المدني- ناقشته في سلسلة من المقالات سابقا- والشَغَب على السيد واتقانهم إياه لا يكون وفقا لقوانين وأدوات يضعها ويصنعها السيد، وعبر جمع من المثقفين والأكاديميين الذين يمارسون أدوات النقض والنقد لمن يعملون في سوق العبيد، وهم وإياهم سواء، إذ لا يخرج انتقادهم ونقضهم لقادة العبيد عن أدوات صاغها وصنعها ودبرها وحتى فكر بها ونزَّلها اليهم السيد ومستشاروه، ذلكم أنَّ السيد ومن يقوم بخدمته من امثاله من السادة الساعين للحفاظ على وجودهم وامتيازاتهم يتحولون في لحظات معينة إلى شركاء، تذكرنا بنظرية الملأ وفقا للمفهوم القرآني.
تعمل الأحزاب والمؤسسات السياسية المنبثقة عنها وكذا الحركات السياسية على خلق حالة دائمة من الوعي السياسي-الثوري في مجتمعاتها، خاصة تلكم التي تعاني من الاضطهاد والكبت بل سلب الأرض والغزو ونفي الانسان والمكان والذات، وتتغلغل هذه الأحزاب في مجتمعاتها بناء على طروحات وتصورات وبرامج عمل، وتؤسس لحالة نشطة داخل تلكم المجتمعات لتحقيق الوعي الذي هو أساس التغيير.
في حالتنا في الداخل الفلسطيني، تتراجع مستويات الأحزاب تنظيميا وسياسيا، وقد ارتبطت وجودا وعدما بالكنيست، فمن كان داخلها فهو “كيان سياسي” وإن لم يملك مقومات مفهوم الكيان السياسي، أي أن يكون حزبا أو حركة بما تمليه المصطلحات والأدوات من معنى لهذه الكلمة، وشكّلت هذه الحالة أحد الإشكاليات الكبرى في تطور وتقدم المجتمع في الداخل الفلسطيني، سياسيا بما يتعلق من فهم ووعي وعمل، ولعل ما تعانيه لجنة المتابعة من شلل عملياتي، إن في البناء أو التفكير الاستراتيجي الساعي للتغير المجتمعي من تداعيات الهيكليات السياسية الموجودة داخل الكنيست والتي تعتبر نفسها بمجرد وجودها هناك تملك حقا فوق حق هذا الكيان المسمى المتابعة. بل ثمة كيانات “سياسية” داخل المتابعة تعرقل أي محاولة لتطويرها، وتحديث أدواتها ومنحها استقرارا واستقلالا يفضي الى وجود مظلة وطنية جامعة مؤثرة فعليا في مجتمعنا، ذلك أن هذه الكيانات ما زالت تعيش سياسيا بِنَفَسِ السيد الذي يضخ عليها من أرزاقه المالية والمادية والمعنوية، ما يجعلها قائمة ومن ثم فخدمته الأولى ككيان سياسي يعيش ظاهرة “الملأ” برسم وجوده في القصر، هو العمل بكل ما يملك من إمكانيات في الحفاظ على معادلة العبيد في البيدر والقصر، إذ المتابعة في هذه الحيثية، حيثية الاستقرار والقرار، خروج من القصر ومن البيدر وهذا ما لا يريده السيد أبدا.
في طروحات مالكوم إكس الإبداعية، في توصيفه لحال أهله في تلكم البلاد ما هو أكثر من خاص بهم، إنه أمر تعايشه كل الأقليات المقهورة، ونحن جزء من تلكم الأقليات، إنها حالة إنسانية تعايشها أقليات عالم اليوم. فالسيد الأبيض (في حالتنا الإسرائيلي) ينظر الى الجميع، من هم داخل الحظيرة الكنيست وخارجها على انهم عبيد مع تفاوت في منسوب العبودية، وأنهم لا حق لهم في المساواة مع السيد الإسرائيلي وأنّ طروحات عديدة تقدم بها عبيد الحقل ممن يعتبرون الكنيست ملاذا لتحسين ظروف عبيد البيدر باءت بالفشل التام من مثل المساواة، دولة كل مواطنيها، دولتان لشعبين وكل ما يتعلق بالقضايا المطلبية والحياتية.
محاولة القائمة الموحدة ان تؤثر بشكل مباشر على صيرورة تشكيل الحكومة، حتى اعتبرها البعض بيضة القبان، يمكنها أن تُذهبنا عن الحقائق الأساسية المتعلقة في العلاقة بين المؤسسة الحاكمة ونظرتها الينا. فالتوجه اليميني المستمر لدى المجتمع الإسرائيلي يحمل في طياته المستقبلية بذور النفي لمن هم من جلدتهم ولا يوافقونهم الرأي والمعتقد، فكم بالحري معنا، فنحن وفقا لعقيدتهم نُعتبر “الجوي” والمغتصب للأرض والمتخلف الذي بفضلهم أُخرِجَ من وحل الحياة والجهل الى عالم الأنوار، ولا يمكنك العيش في البيدر أو في القصر إلا إذا امتثلت شروطه وهي كثيرة جدا ليس أقلها الإقرار بأنّ هذه الأرض حق خالص لهم، وأنّ يهودية الدولة مقدمة على ديموقراطيتها وانّ هذه القيم تعني تقدم السيد “اليهودي” على الجوييم وانه عليهم العيش بشعور تفضل السيد عليهم.
التفكير تحت ومن خلال مظلة الكنيست، يعني بقاء الداخل الفلسطيني في خانتي التخلف والدونية، وإن تزينت شوارعهم بالبيوت والسيارات الفارهة، إذ المطلوب منع الناس من أن تفكر خارج الكنيست، باعتبار الكنيست تلكم المساحة التي منحها السيد للعبيد للعمل بها، ومن ثم فكل عمل خارج هذه المساحة سيواجه من طرف “السيد” بأقصى أنواع العقوبات، إذ المطلوب من الجميع أن يكونوا في تلم الكنيست سواء شارك أو قاطع، إذ المهم والاصل والأهم ألا يفكر خارج هذه المساحات.
بات من نافلة القول إن أشير الى أن تفكيرا في مجتمع عصامي أو تفكيرا في بناء لجنة المتابعة، بناء على قيمنا وسياسات تخدمنا كمجتمع فلسطيني يُشرعُ بها عبر انتخابات مباشرة من نوع التفكير خارج مساحات ما أقره السيد، وهو المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى.