رمضان.. الهِبةُ الإلهيّةُ السّنوية
محمد خليل شباط
لمّا عصفت بمجتمعنا الجريمة، واستفحل التّخاذل واستشرست الأيادي الجَبانةُ الخفيّة في زرعِ الفِتَن وثكلَت أمّهاتٌ وأُسِرَ آباءٌ وتيتّم أطفالٌ كُثرٌ، ودُنّسَت المُقدّساتُ وفشلتِ الحلولُ السياسيّةُ وعادَت كُلّ الاجتِهاداتِ الدّبلوماسيّةِ بخفيّ حُنين وانتشر في قلوبِ الكثيرين اليأسُ وانسدّت السُّبُلُ وصار الأملُ أمنيةً تشبهُ الخُرافة، يأتينا اللهُ عزّ وجلّ برمضانَ، يجيئنا النّاصرُ الوحيدُ للمُؤمنين بخيرِ الأشهُرِ وأحسنِ اللّيالي فتحيا القُلوبُ وتستبشرُ الوجوهُ ونجرؤ ثانيةً أن نحلُمَ بالفرجِ.
رمضانُ جاء وفي جعبتهِ الحُلولُ لمن كانَ لهُ قلبٌ أو ألقى السّمعَ وهو شهيدٌ، كيف ذلك؟ قد يسألُ السّائلُ وقد حُقّ له أن يسألَ، وحُقَّ أن يستعجِبَ فقد سقطَ مجتمعنا أيّما سقوطٍ، وصار لُقمةً على موائدِ اللّئامِ وهو لا يدري من أيّ الأطرافِ سيؤكَلُ بعدُ؟ فأينَ الحُلولُ الّتي جاء بها الشّهرُ الفضيلُ، أو قُل الشّهرُ الأفضلُ بين شهورِ اللهِ قاطبةً؟
أمّا بعدُ، فإنّ رمضانَ هذا ليسَ كأيّ رمضانٍ عِشناهُ في الأعوام الأخيرةِ، وإنّ رمضانَ هذا رمضانُ عهدٍ جديدٍ بإذن ربّ العالمين، الرّحمنِ الرّحيمِ مالكِ يومِ الدّينِ، رمضانُ الّذي ضيّعنا معناهُ جاءَنا بحكمةِ الدّهر وخبرِ السّلفِ الغابرِ وحلولُ مصائبِ هذا العصرِ ونوائبهِ. إنّ الصّيام اليومَ ليس كأيّ صيام، وإنّ جهادَ الرّغبةِ ليس كأيّ جهادٍ فعصرنا عصرُ
شيوعِ الحرامِ والقابضُ فيه على منهج الله كالقابضِ على جمرِ نيرانِ الإنسِ، وليست نيرانُ الإنسِ بأقوى من الدّين ولا بأدْوَمَ منهُ.
صيامُنا ضبطٌ لشهواتنا التي استفحلت في مُجتمعنا حتّى جعلتِ الحليمَ حيرانًا، وعبادتُنا التزامٌ أمام بارئنا في عصرٍ قلّ فيه العابدونَ وازدادَ المتكاسلون، صِلةُ رحمنا في رمضانَ لُحمةٌ اجتماعيّةٌ نسدُّ بها مداخل الشّيطان بيننا وبين أهالينا، سحورنا وإفطارنا يقوّي روابط قلوبنا مع أقاربنا وجيرانِنا، صدقاتُنا وهِباتُنا ترفعُ وعينا تجاه إخواننا وأخواتنا الأقلّ منّا مالًا وتزيدُ في مُروءتِنا وتُحيي روابطنا الإنسانيّةَ فيما بيننا.
أمّا رمضانُ فقد سطّر فيه التّاريخُ بعدَ أنْ أذِنَ اللهُ، بأنْ لا تنتكسَ فيهِ للمُسلمينَ رايةٌ، وألّا تخسر معركةً في وجه الظّالمينَ والكافرينَ المُعتدينَ على عِبادِ اللهِ، الآنَ وقد خرجَ بيننا الخوارجُ يقتلوننا ونحنُ صامتونَ، نذكُرُ إمامنا عليًّا والدُ السّبطَينِ، قاهرُ أبطالِ اليَهودِ والعربِ المُشرِكينَ، عِندمَا خرجَ الخوارجُ مُغتَرّينَ بأنفسِهِم يقتلونَ عِبادَ اللهِ بلا حقٍّ ويُفسدونَ في الأرضِ وهُم يَحسَبونَ أنّهُم يُحسِنونَ صُنعًا، ما كانَ من إمامِ المُسلمينَ ورابعِ الرّاشدينَ وحاملِ لواءِ المُسلمينَ إلّا أن يُشهِرَ سيفَهُ ويجهّزَ جَيشَهُ ويقطعَ دابرَ القومِ الظّالمينَ، بعدَ مناظرتهِم ومحاولةِ ردّهم إلى صفوفِ الشّعبِ ردًّا جميلًا دون جَدوى ولا استِجابة.
الآنَ وقد حاولنا ردّ المجرمين الضّالّينَ عن ضَلالِهِم بالّتي هيَ أحسَنُ دون جَدوى، يا أئِمّتَنا وَيا أولياءَ أُمورِنا، أينَ أنتُم من فِعلِ أبو الحَسَنَينِ -رضي اللهُ عنهُ-؟ هل تُقتَلُ نساؤُنا ظُلمًا فنصمِتُ؟ وهل نُسلبُ خِيرةَ شَبابِنا فنَختَبِئ؟ أينَ نحنُ من قولِ اللهِ: “وما لكم لا تقاتلونَ في سبيلِ اللهِ والمستضعفينَ من الرّجالِ والنّساءِ والوِلدان؟” … يا أئمتّنا قد آذانا الهَوانُ وقد فشلنا في حلّ الأزَماتِ بالتّسييسِ، يا من وضعكُمُ اللهُ موضعَ المَسؤوليّة، أينَ فتاويكُم في فرض مقاطعةِ القاتِلينَ ومن يُرسِلُهُم ومن يأويهُم؟ أينَ الأمانةُ في السّكوتِ؟ ألم يقُل رسولُ اللهِ أنّ “العُلماءَ ورثةُ الأنبياء؟” وهل ميراثُ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم هو السّكوتُ عن القاتلين؟ يا أهلَ العِلمِ والتّقوى إنّ السّكوتَ ذُلٌّ وعاقبتهُ ذُلٌّ وانتظارُ توقّفِ الجريمةِ من تلقاءِ نَفسِها ضَربٌ من الجُنونِ، ولنا في ميثاقِ الشّرفِ المَقدسيِّ الأخيرِ خيرُ دليلٍ على قُدرتِنا على الفِعلِ.
أعانكَمُ اللهُ، لا تقتُلونا بِصمتِكُم، آواكُمُ اللهُ إنّ الاسترخاءَ عندَ الشّدّةِ عَيبٌ، هَداكُمُ اللهُ ارفعوا سيفَ الشّرعِ ليقطعَ دابِرَ الظُّلمِ، علّموا النّاس وأعلموهُم وأفتوهُم وأجبِروهُم على مقاطعةِ القَتَلةِ الظَّلَمة، رغّبوهُم وأرهِبوهُم بِحقّ اللهِ عليهِم، فرمضانُ شهرُ بطولاتِ المُسلمينَ وشهرٌ أعزّهُم فيهِ ربُّ العالمين، ونحنُ أهلُ فلسطينَ أحقُّ النّاسِ برفعِ رايةِ الأنصارِ
لنحلُمَ باستقبالِ المُهاجرين.