بعد 3 عقود من الانتصار على الاتحاد السوفييتي، الخصم الجديد قد يهزم أمريكا هذه المرة
يعيش العالم منذ أكثر من 3 عقود دون حرب باردة شهدت انتصاراً ساحقاً لأمريكا على الاتحاد السوفييتي لتنفرد بقيادة العالم، واليوم عادت أجواء الحرب الباردة مرة أخرى والخصم هو الصين، فلماذا القصة مختلفة هذه المرة؟
كان العالم يعيش منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، في ظل معسكر شرقي يقوده الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو ومعسكر غربي تقوده الولايات المتحدة وحلف الناتو، وبين المعسكرين حرب باردة وصراع يتميز بالصعود أحياناً والتراجع في أحيان أخرى، ومن أبرز أوقات التوتر أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 والتي تعتبر أقرب لحظة اقترب فيها القطبان من مواجهة نووية، لو حدثت لأنهت الحياة على الأرض.
ومع سقوط جدار برلين الذي كان يقسم ألمانيا إلى بلدين؛ شرقية تابعة للمعسكر السوفييتي وغربية تابعة للمعسكر الغربي وذلك عام 1990، انتهت الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي ومعه اختفى حلف وارسو، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم، وظل حلف الناتو الذي يُوصف بأنه أنجح حلف عسكري في التاريخ، إذ حقق انتصاراً ساحقاً دون حرب حقيقية.
الحرب الباردة بين أمريكا والصين
الحديث عن حرب باردة جديدة، طرفاها الولايات المتحدة والصين، يرجع إلى السنوات القليلة الماضية، خصوصاً أثناء فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي شهدت حرباً تجارية وتبادل فرض رسوم باهظة على البضائع من الجانبين، وكان البعض يتوقع أنه بخسارة ترامب ومغادرته البيت الأبيض ستبدأ علاقات بكين وواشنطن بالتحسن في ظل إدارة بايدن.
لكن ما حدث هو العكس تماماً، وأصبح واضحاً أن الولايات المتحدة باتت تعتبر الصين منافساً خطيراً لها على زعامة العالم، وعبَّر عن ذلك أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الجديد، أول مرة، عندما قال في أثناء جلسة تصديق مجلس الشيوخ على ترشيحه للمنصب: “الرئيس ترامب كان على حق في موقفه الأكثر صرامة من الصين”. وكان ذلك هو الملف الوحيد تقريباً الذي شهد اتفاقاً في الرؤى بين إدارة ترامب وإدارة بايدن.
ثم جاء اللقاء الرسمي الأول بين الجانبين على مدار يومي الخميس والجمعة 19 و20 مارس/آذار الجاري، أشبه بالجولة الافتتاحية لمباراة ملاكمة بين المتنافسين على لقب الوزن الثقيل عالمياً، إذ تبادل خلاله كبار الدبلوماسيين الأمريكيين والصينيين العبارات الحادة والاتهامات المتبادلة، لدرجة أن وسائل الإعلام الأمريكية نشرت عديداً من التحليلات، التي قالت إن الوفد الأمريكي كان يجب أن ينسحب من اللقاء رغم عقده في ولاية ألاسكا الأمريكية.
حرب باردة مختلفة
والآن تُظهر الدراسات الاستراتيجية من الجانبين، أن الحرب الباردة التي يشهدها العالم هذه المرة مختلفة شكلاً ومضموناً عن سابقتها، فالصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كان يغلب عليه الجانب العسكري أكثر وسباق التسلح خصوصاً في المجال النووي، إضافة إلى سباق الوصول إلى الفضاء، وتبادل المعسكران تحقيق الانتصارات المرحلية في البؤر الساخنة حول العالم حتى انتهت الحرب بانتصار ساحق لطرف على طرف آخر، اختفى بالفعل من على خريطة العالم.
والمقصود هنا هو أن الولايات المتحدة وحلفاءها ورمز التحالف بينهم وهو حلف الناتو لا يزال موجوداً؛ بل انضمت إليه دول كانت سابقاً ضمن المعسكر المعادي أو حلف وارسو، بينما انهار الاتحاد السوفييتي تماماً وتفكَّك اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية إلى عشرات الجمهوريات المتناحرة فيما بينها، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن مصير الصين في ظل المتغيرات التي طرأت على الاستراتيجية التي سارت عليها بكين منذ تأسيس الحزب الشيوعي والتي ساهمت في نموها على مدار العقود الماضية.
فالصين كانت تتبع استراتيجية “الالتزام والاختباء” على مدار العقود الماضية، بمعنى التركيز على التنمية الاقتصادية وفرض هيمنة الحزب الشيوعي على شبه القارة التي يقطنها نحو 1.4 مليار شخص، أغلبيتهم ينتمون إلى عرقية الهان مع وجود أقليات أخرى، أبرزها الإيغور المسلمون في تركستان الشرقية التي غيَّرت الصين اسمها إلى شينغيانغ أو (الحدود الجديدة)، مع الابتعاد عن الصراعات الدولية رغم تمتعها بمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي (إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا التي ورثت مقعد الاتحاد السوفييتي بعد الانهيار).
ورصد تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية كيف تخلى الحزب الشيوعي الصيني تحت زعامة الرئيس الحالي شي جين بينغ، عن منهج “الاختباء والالتزام” وبدأ يطارد أحلام لعب دور قيادي على المسرح الدولي، ليعكس صورة هزيمة الاشتراكية أمام الرأسمالية كما حدث قبل 3 عقود. وتصطدم رؤية شي لمستقبل المسرح الدولي الخاضع لهيمنة نظام الحزب الواحد مع الرؤية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، القائمة على الأسس الديمقراطية والتعددية وحرية السوق.
الصين ليست الاتحاد السوفييتي
وبحسب تقرير المجلة الأمريكية المتخصصة في الشؤون الأمنية والعسكرية، تختلف الحرب الباردة الجديدة بين الصين وأمريكا عن سابقتها مع الاتحاد السوفييتي من حيث الشكل والمضمون، فعسكرياً تمثل الصين تهديداً أمنياً في آسيا فقط، لكن اقتصادياً وتقنياً فالصورة مختلفة تماماً، إذ أصبحت الصين عملاقاً عالمياً تخطى الولايات المتحدة بالفعل، وأصبحت بكين الشريك التجاري الأول لكثير من حلفاء أمريكا، خصوصاً الاتحاد الأوروبي.
وقد أظهر وباء كورونا، الذي ضرب الصين أولاً قبل أن يتحول لجائحة عالمية في مارس/آذار من العام الماضي، مدى قوة الصين في المجال الاقتصادي عالمياً، وتحولت بكين من مصنع العالم إلى القوة الاقتصادية الأبرز التي تمكنت من إعادة نشاطها إلى مستوياته القياسية قبل الوباء في ظرف أشهر قليلة، عكس الاقتصادات الكبرى الأخرى وعلى رأسها الاقتصاد الأمريكي، الذي لا يزال يعاني بشدة من الكساد، بسبب الوباء.
ويرى الخبراء أن هدف الولايات المتحدة في الحرب الباردة الجديدة هو نفسه هدفها في حربها القديمة ضد الاتحاد السوفييتي، أي حصار المد الاشتراكي والحفاظ على مناطق النفوذ الأمريكية، لكن شكوكاً كبيرة تحيط بمدى قدرة الولايات المتحدة على الانتصار مرة أخرى في هذه الحرب الباردة الجديدة.
ويرصد الخبراء في هذا الصدد عدداً من الاختلافات بين الصين الآن والاتحاد السوفييتي سابقاً، أبرزها الانتشار الصيني والتغلغل حول العالم من خلال مبادرة الحزام والطريق لتطوير البنية التحتية من موانئ وسكك حديدية ومطارات جوية حول العالم، عبر قروض صينية تتولى من خلالها شركات صينية التنفيذ لتلك المشاريع، وهو ما ظهر جلياً العام الماضي، في أثناء وباء كورونا.
والاختلاف الآخر يتمثل في الجانب العسكري، فالجيش الصيني يحتفظ بقواته داخل آسيا وحول حدوده، عكس الوضع مع الولايات المتحدة التي تنتشر قواتها في مناطق متباعدة حول العالم من الشرق الأوسط لإفريقيا لأفغانستان لأوروبا لآسيا، وهو ما يضع ضغوطاً عملياتية وتشغيلية وتمويلية ضخمة على الجيش الأمريكي، بينما تركز الصين على تحقيق أهدافها العسكرية القريبة من حدودها وعلى رأسها إعادة ضم تايوان.
أما نقطة الاختلاف الأبرز فهي أن الصين تعتمد بشكل أساسي على نفسها ومواردها الخاصة ومصادر قوتها بشرياً واقتصادياً، دون الحاجة للدخول في تحالفات مع دول أخرى لتشكيل معسكر، على غرار ما فعله الاتحاد السوفييتي، وهي نقطة تفوُّق استراتيجي تصب في مصلحة بكين.
وعلى الجانب الآخر تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة المياه لمجاريها مع الحلفاء، بعد أن تسببت رئاسة ترامب وسياسته الانعزالية في فقدان ثقة الحلفاء بواشنطن ومدى التزامها بتوفير الحماية لهم أمام التحديات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وهي المهمة التي تمثل تحدياً في حد ذاتها.
والخلاصة هنا هي أن الصين تبدو في موقف أقوى حالياً وتستفز الولايات المتحدة، بينما تتبع إدارة بايدن سياسة التهدئة والدبلوماسية بغرض تشكيل تحالف دولي اقتصادي وليس عسكرياً فقط يمكنه مجابهة الصين ومن ثم السعي لعزلها على المسرح الدولي، وهي مهمة تبدو صعبة- إن لم تكن شبه مستحيلة- في ظل وضع دولي شديد التعقيد وصعود واضح للنزعات القومية في مقابل تراجع لمفهوم العولمة والتعاون الدولي، وهو ما يصب في مصلحة الصين.