النقب أولا…
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
كانت ولا تزال قضايانا المطلبية في الداخل الفلسطيني تحمل صفة الوجود، ممّا أهّلها أن تكون قضايا وجودية-مصيرية، على خلاف ما هو متوقع، في دولة تزعم أنها ديموقراطية، بيد أن شقها الإثني يدفع دائما لتحويل تلكم القضايا إلى أن تكون وجودية ومصيرية، فالصراع من أجل المسكن والأمن والعمل والتعليم والعيش بكرامة، يذكّرنا دائما أننا أصحاب حق وأرض ووطن مسلوب، تمَّ سلبه تحت لافتات لاهوتية جيء بها من أعماق التاريخ، وفي هذا أيضا تذكير لنا أن هوياتنا يجب أن تعتمد أولا وقبل كل شيء على تاريخنا: التاريخ الإسلامي بكل ما يحمل من قيم عقدية وفكرية وتربوية وأخلاقية وعروبية، ويذكرنا أن إسرائيل دولة كولونيالية بامتياز، وهي إذ تمارس سياسات أولياء نعمتها من الاستعمار الغربي-الصليبي الأورو-أمريكي، فهي كذلك تذكّرنا أننا أمام معركة لا تزال رحاها تدور في منطقتنا، بعدئذ تخلّقت دويلات سايكس بيكو كشرط لقيام إسرائيل، وتفكيك كل أمل بوحدة عربية أو إقليمية أو إسلامية في منطقة العرب والعروبة والإسلام.
كل ما ذكرت آنفا، تجده وتشعر به وتعايشه وأنت تتابع ملف أهلنا في النقب، وهم يدافعون عن حقهم في الوجود بصدورهم العارية، إذ لا تزال مفاعيل الاستعمار الإسرائيلي تتجلى بأبشع صورها في النقب، والحكم العسكري بكل ما فيه من مساوئ وخبث ولؤم يهدف إلى مصادرة ما تبقى من أرض كما فعلت من قبل في مناطق الداخل الفلسطيني بين أعوام 1949 و1966 وما كان النقب ببعيد عن تلكم الإجراءات والسياسات، وإسرائيل الدولة والمؤسسة، تذكرنا دائما أننا أعداء، وبالتالي فالتعامل معها يتطلب سياسات معيّنة وذات كثافة معينة، وهذا لعمري حري بمن يفهمه جيدًا أن يُعمِل العقل والتدبير لمواجهته، إذ لا يمكنك مواجهة من يعتبرك عدوا بأدوات هو يشترطها عليك، كمثل الكنيست وملحقاتها، وفي هذا السياق تحديدًا تتأكد أهمية الهوية الجمعية لنا كأبناء الداخل الفلسطيني، بجليله ومثلثه ومدنه الساحلية ونقبه وبكل مكوناته البشرية، وسبل تعزيزها المجتمعي-الإنساني-الأخلاقي.
الجبهات الثلاثة
أشدَّ المعارك عنفا، تلكم التي تجري في عالمي أفاق الأنفس والحياة، إذ المعارك العسكرية الطابع، معروفة سلفا، ويمكن تقدير نتائجها وسبل مواجهتها وكيفية تجاوز نتائجها، أمّا معركة الحياة فتلكم نتائجها ممتدة، خاصة إذا كان أحد الفريقين فاقد لشرط المواجهة المتمثّل ابتداء بالوعي، وعي العدو وكيفية التعامل معه ومعرفة كيفية قراءاته واقتحام عقله وتفكيكه، وهذا إلى هذه اللحظات غير متحصل في داخلنا الفلسطيني، وهو ما يُصَعّبُ سبل مواجهة هجمات الآخر الإسرائيلي الذي عادة ما يخلط السمَّ بالعسل لتحقيق مُراده، واليوم فإنَّ أهلنا في النقب يقودون معركتهم اليوم على ثلاث جبهات، مع دولة تملك من الإمكانيات ما لا يمكن عدّه وحصره، في مواجهة خطر اقتلاع عشرات القرى التي لا تعترف بها هذه الدولة، وهذه القرى قائمة قبل قدوم أول مستوطن صهيوني مطلع القرن الفائت، ويواجه أهلنا في النقب خطر مصادرة الأراضي، بحجة أنها أملاك دولة، كذلك يواجهون خطر التفكك الاجتماعي والأسري، في ظل المتغيرات التي باتت تُخَطِرُ كل بيوتنا ومجتمعاتنا المحلية في داخلنا الفلسطيني، وهذه الجبهات الثلاث، هي في جوهرها تحديات وأزمات، والأزمات تواجه بمنطقي العقل والعمل، وبأخلاق الصبر والمصابرة، وبأدوات ميدانية مبدعة، تكون ثمرة تفكير خارج صندوق الأدوات التي عادة ما تفرضها السلطة، وقديمًا قيل ما حاك جلدك إلا ظفرك، ومسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وكل ذلك شرطه الوعي والوحدة واتحاد الموقف والكلمة، عمل صبور دون كثير كلام، ومن دوام التوفيق، قلّة الكلام ومداومة العمل والإخلاص له، وفيه ومن قبل قال ابن عطاء في حكمه: “الإخلاص روح الاعمال وسر قبولها”، ومن عجيب هذه الحقيقة أنها تنساح على كل من عمل بمقتضاها مهما كانت هويته وفكره.
في الوقت الذي بات الداخل الفلسطيني يعايش همَّ الأمن الشخصي والمجتمعي، مع تفشي الجريمة والعنف وتفكك مجتمعنا تحت ضغوطات الحداثة الإسرائيلية والأسرلة بكل قيمها الوافدة، في هذا الوقت بالذات، تتعاظم هموم أهلنا في النقب الذي يعاني ممّا ذكرت بالإضافة إلى معاناته اليومية، من جرائم أدوات الاستعمار الإسرائيلي في النقب ممثلا بوحدات شرطية مهمتها الأساس إدامة الهيمنة الإسرائيلية والتذكير بدونيتنا ودفعنا للقبول بهذه الدونية عبر قبول فتات عروضهم، ولتحقيق هذه الأهداف وتذويتها نفسيا على مستوى الافراد ومجتمعيا، فإنها تمارس جملة من الجرائم اليومية من مثل الاعتقالات على خلفيات الفعل السياسي الرافض لجرائمهم، ومن مثل هدم البيوت وتخريب الزراعة ومصادرة الماشية وتدمير الحيز البدوي الذي عاش ويعيش فيه ومعه أهلنا في النقب، وهي لا تتوّرع عن استعمال العنف المفرط الذي يصل حدّ القتل، لأن هذه القوى تأمن الحساب وتمارس مهمتها وهي جزء من بنيوية سلطوية تقوم على التفرقة والعنصرية.
لماذا النقب أولا..
في خضم حالة الغليان التي تعتور داخلنا الفلسطيني بسبب غول العنف والجريمة، غابت عنّا عديد القضايا المصيرية التي تفوق أهميتها هذه الآفة باعتبارها ثمرة نكد من ثمار هذه القضايا، وفي مقدمتها المسكن والتعليم والحياة الكريمة، وإذا كان الداخل الفلسطيني والنقب في القلب منه، يدفع ثمن تلكم القضايا بسبب سياسات سلطوية هدَفت الوصول إلى هذه اللحظة، لحظة تفكيكنا مجتمعيا وهوياتيا، فإن السلطات ماضية في غيّها ولن تتوقف إلا يوم تستشعر أنّ السحر انقلب على الساحر، ولذلك ثمّة حاجة أساس لأن يكون النقب في كل اجنداتنا الراهنة أولا، أولًا في التفكير وأولًا في الدفع نحو سياسات وبرامج عملياتية وأولًا في الوعي والوجدان وأولًا في التعاضد والتكاتف. وهذا هو محل اختبار الداخل الفلسطيني الذي يتجلى هذه اللحظات التاريخية في النقب، إذ على أرضه تتم أكبر عملية مواجهة مع المؤسسة الإسرائيلية، فيها ستحسم العديد من القضايا المصيرية لنا كفلسطينيين نعيش على أرضنا التي لا أرض لنا سواها، وكل عمل وإنجاز يحققه أهلنا في النقب لصالح قضاياهم العادلة يدفع نحو تأكيد وجودهم وحفظ هويتهم وعيشهم بأمن وأمان وكرامة ستكون تداعياته الإيجابية الفورية على عموم الداخل الفلسطيني والعكس صحيح، ومن ظنّ غير ذلك، فقد وقع في أتون الوهم وإن ظنَّ أنه يحسن صُنعا، وعليه فإنّه يتطلب موقفا موحدًا إيجابيًا من كل الأطراف الفاعلة على الساحة في الداخل الفلسطيني، موقفا موحدًا عابرا للحزبية والتكتلاتية. ولتحقيق ذلك ثمة ضرورة لعمل موحد داعم مادي ومعنوي وأخلاقي ومعرفي لأهلنا في النقب، ومعلوم أنّ من كانت بداياته محرقة كانت نهاياته مشرقة، وهذا ينطبق على آحاد الأفراد والجماعات والتكتلات.