أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

أوراق في العــصيان المدني… الورقة الخامسة والاخيرة

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
هل نحن بحاجة الى عصيان مدني
على ضوء المقالات السابقة التي حاولت فيها مقاربة موضوعة العصيان في سياق أقلية هي صاحب ومالك هذه الأرض التي تعيش عليها ولا يمكنها التصرف بشأنها وبها، وهذه الأقلية مهيضة الجناح ضعيفة لا تملك من أدوات التمكين إلا قليلا، ولم تعمل قواها الحيّة منذ النكبة والى هذه اللحظات على تثوير تلكم الممكنات، اللهم إلا الحركة الإسلامية التي حظرتها إسرائيل عام 2015، وكان أحد أهم أسباب حظرها أنها خرجت عن المألوف السياسي إلى استثمار الممكن والمستطاع، وبالعموم فكافة أحوال الفعل السياسي في الداخل الفلسطيني هزيلة جدا ولا تخرج بالعموم عن سقف الكنيست وهو ما جعل هذه الأحزاب والحركات في أزمة مستمرة منذ عام 1949 وإلى هذه اللحظات.
هُزال الفعل السياسي في الداخل الفلسطيني تجده في كل جوانب الحياة، إذا ما علمنا أنَّ أحد أهم مميزات الحزب هو التجنيد السياسي وتخليقه داخل المجتمع لتحريك هذا المجتمع وتسيسيه، إذ الفعل السياسي من أهم جوانبه خلق حالة من الثقافة السياسة تدفع نحو مثاقفة مجتمعية-سياسية داخل المجتمع، تضفي وعيًا جمعيًا وتكون هذه أحد محطات الفعل الذي يسعى نحو التمكين، باعتبار أن كل نشاط هو في نهاية مطافه سياسة.
ارتهان المؤسسات والهيئات السياسية للكنيست وكأن المشاركة في انتخاباتها شرط وجودها، أدخلها في جحر ضبٍ لن تخرج منه إلا إذا أعادت ترتيب أوراقها كما وكيفا ونظّمت مسيرتها السياسية ضمن أفقين، أفق الواقع المُعاش وتداعياته وأفق المستقبل واستشرافه، ولا يمكن لعصيان مدني أن يتم وتتحقق مطالبه في ظل أجسام سياسية مرتهنة لسقف الكنيست ولا تملك رؤية ودون سقوف سياسية تطرحها تلكم الهيئات والأحزاب والحركات، وفق أفق متفق عليه وخطوات مرسومة بدقة تروم تحقيق هذه الأهداف. فهل حركاتنا السياسية بكل مكوّناتها التي هي داخل الكنيست أو خارجه على قدر مما ذكرت فعلا ومسؤوليةً؟

الواقع المُعاش والامن المجتمعي
الفقر مرض، إذا حطّ رحاله في مجتمع أفقده مميزاته وكثيرًا من كرامته ومفاعيله النهضوية الرافضة للاستبداد والظلم، وتذهب محرّكاته الذاتية نحو تحقيق الحدود الدنيا من الأمن المعيشي والامن الذاتي، وعادة ما يترتب على سياسات الافقار استضعاف سلطوي ممنهج للمجتمعات واختراقها وتَذيلها سلطويًا ويترتب على هذه السياسة ذهاب قواه الحية للاهتمام بهذا الفقر ومحاربته وسدِّ جوانب كثيرة تترتب عليه، فتقع تلكم القوى بين فكي الهموم المعيشية اليومية للفقراء واستغلال السلطة لها عبر هذا الذي تحملته بإبعادها عن هدفها الأساس، تغيير الواقع السياسي الذي هو سبب مباشر للفقر.
لم تكن المؤسسة الإسرائيلية يوما من الأيام مستعدة للتفكير في رفع المستوى المعيشي في الداخل الفلسطيني، وكيف ذلك وهي التي صادرت الأرض، مرتكز المعاش والبناء الزراعي والعمراني والثقافي، وهذه هي مكوّنات البناء الحضاري، وما غيّرت المؤسسة سياساتها الا بقدر ما صبَّ الأمرُ في مصالحها الاقتصادية الاستراتيجية سواء في ظل المتغيرات الاستراتيجية التي طالت المؤسسة والمجتمع الإسرائيلي بما في ذلك الجيش واجهزته الأمنية مع نهايات القرن السالف ودخول البشرية معالم ومظاهر العولمة والامركة والانفتاح الاقتصادي العالمي، ودخولها عصر الجينوم والعصر الرقمي، وكانت إسرائيل من تلكم الدول التي دخلت هذا العالم مبكرًا مما استدعاها إحداث تغيير في سياساتها اقتضى انفتاحها على الأقلية العربية في الداخل الفلسطيني انفتاحا يصب في مصالحها الاستراتيجية ويفيد ماديا الداخل الفلسطيني، مما خلق حالة زبائنية بين الدولة والداخل الفلسطيني، ولقد شهدنا على سبيل المثال لا الحصر كيف دخل العرب الى عالمي الطب والتمريض والصيدلة ليحلوا محلَّ اليهود الذين توجهوا الى العالم الرقمي وأبدعوا فيه، وفي ظل هذه الحالة الآخذة بالنمو منذ ثلاثة عقود ومع تعمق الاقتصاد النيو ليبرالي وتفكك الاسرة العربية الفلسطينية الممتدة، شهدنا معدلات مستمرة في ارتفاع الفقر، وعلى سبيل المثال لا الحصر كشفت مؤسسة التامين الوطني في ورقة صدرت عنها تحت عنوان “تأثير الركود الاقتصادي في ظل أزمة كورونا على مستوى الحياة والفقر وعدم المساواة- تقرير رقم 133 صدر في مايو/أيار من عام2020” أن معدلات الفقر في الداخل الفلسطيني سيكون متوسطها في ظلال هذه الأزمة 45.3% (ص12) فيما أشار تقرير لمركز (آدفا) أن 35% من العمال العرب سيكونون خلال هذه الازمة خارج دوائر العمل، وأن ما بين 45.3%-48.9% من العائلات العربية ستكون تحت خط الفقر وأشار ذات التقرير إلى أن 36% من الرجال الذين لا يزالون يعملون انخفضت معاشاتهم بسبب هذه الازمة و41% بين النساء، فنحن إذًا أمام مجتمع ضعيف فقير ستكون آخر اهتماماته العصيان المدني باعتبار أن شاغله المعيشي سيكون في مقدمات تفكيره وأولوياته.
معلوم أن الأمن المعيشي شرط من شروط تحقيق الأمنين النفسي الشخصي والأمن والأمان المجتمعي، وما أسباب الجريمة وتفشّيها إلا بسبب الأزمة المعيشية والفقر، إذ لطالما ارتبطت الجريمة بالفقر بحسب أن الخروج من دوامات الفقر يتم عند الذين يعانون منه عبر هذه البوابة، وعادة ما تنتشر الجريمة في الأحياء الفقيرة والمهمّشة، إذ من جدل العلاقات القائم بين النظام الرأسمالي والمجتمع ضرورات وجود الفقراء والمهمشين الذين عادة ما يترسمل رأس المال على حِسابهم وفي السياق الرأسمالي الجمهوري اللاهوتي، تأخذ العلاقة بعدا جدليا، إذ وفقًا لتلكم القناعات فللقدر شأن في هذا الواقع، وهذا ما نلمسه مثلا عند بعض المسلمين في فهمهم لهذه الحيثية: حيثية الفقر والفاقة.
بين الجريمة والعنف والفقر والتهميش المؤسس على الفقر ثمة علاقة متداخلة لطالما بحثها علماء الجريمة وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، وقد ذهبوا في التعاريف والتحاليل ليس هذا محلها بقدر الإشارة الى العلاقة البنيوية بين النظام الرأسمالي ومفرزاته المختلفة، والفقر والجريمة، وإسرائيل دولة ومؤسسات ليست بمعزل عن هذا الوضع خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ من مصلحة هذه الدولة إضعاف واستضعاف الأقلية العربية في الداخل الفلسطيني، فكيف إذا اجتمع عندها فقر وفاقة وجريمة وعنف، فقد اكتملت للوهلة الأولى اركان سيطرتها البعيدة المدى. ولأنَّ العصيان المدني كما أشرت يحتاج إلى مجموعة تملك الاستعداد للارتقاء بأدوات العصيان لتصل إلى شلل تام بينها وبين المؤسسة، بحيث يستجيب مجتمعها لخطواتها الاحتجاجية، شرط أنْ يؤثر العصيان وأدواته في الدولة أكثر مما يؤثر في المجتمع المحتج وهو في اعتقادي غير متحصل في هذه المرحلة من تاريخ مجتمعنا العربي في الداخل الفلسطيني، مما يستدعي العمل على تهيئة مجتمعنا لمثل هذه الخطوة إعدادا نفسيا وتأهيله عمليا ليتحمل نتائجها.

أســــئلة مفــتوحة
الداخل الفلسطيني يعيش منذ النكبة وإلى هذه اللحظات، حالة من الارتهان مع الآخر الاسرائيلي الذي طوّر على مدار العقود الخالية نظريات وأدوات تعامل تراوحت بين الترهيب والتخويف والضبط والاندماج المصلحي والاختراق والتذويب والتذويت، وما زالت مراكز بحثه التخصصية تضعنا تحت مجاهرها، وتعمل علينا مخبريا، فيما نحن ما زلنا في محل رد الفعل وعلى مستويات مختلفة لا تتجاوز اقتحام العقبة، وهو يستدعي طرح أسئلة ذات بُعد وجودي من مثل أسئلة الهوية والانتماء والثوابت، وتعريف الذات وسلّم الأولويات المبني على هذا التعريف (الحركة الصهيونية عرّفت نفسها على أنها حركة قومية، وبناء على ذلك وتبعا لهذا التعريف نسجت سياساتها)، والوقوف على ما هي ماهيات العلاقة مع الكل الفلسطيني والعربي والإسلامي، وما هي أدوات هذه الماهيات وكيف تترجم واقعا ملموسا وأين نحن من المشروع الفلسطيني وأين نحن من هموم العالمين العربي والإسلامي، وهل من الممكن أن نكون جزءا من المؤسسات الفلسطينية كالمجلس الوطني، أو أن يكون لنا ثمة تمثيل في منظمة التحرير، وما هي طبيعة العلاقة مع الفصائل الفلسطينية ومع سلطة رام الله راهنا ومستقبلا، وما هي ضوابط وآليات وأدوات هذه العلاقة…، وماهية علاقاتنا مع الكل الإسلامي وكيف تبنى وتستثمر هذه العلاقات. وثمة حاجة للإجابة على أسئلة تتعلق بمستوياتنا المحلية، خاصة أنه في ظل سياسات الافقار والملاحقات ما عادت في تصوري طروحات مطلبية، فبناء البيت أضحى قضية وجودية وتوسيع المسطحات والتعليم والعيش بكرامة أضحت قضايا تمس الوجود حاضرا ومستقبلا، ومن ثم تتبدى أمامنا أسئلة تختلف عن تلكم التي كانت قبل سنوات قليلة في ظل التحولات الجارية في مجتمعاتنا المحلية ومجتمعنا ككل في الداخل الفلسطيني، وتتعمق هذه الأسئلة مع التحولات الإقليمية، ولعل قضايا التعليم العالي والتعليم الرقمي وتحديات كورونا من موجبات هذه التحديات، وقد بات واضحا أن تحديات العنف والجريمة على كل أنواعها وتعاريفها ستصاحبنا عدد سنين، مما يستدعي رؤى تقدمية مؤسسة على قيمنا وأخلاقنا لمواجهة هذه الجملة من التحديات، وهو ما يؤسس لبناء عقلية المدافعة بأطرها السننية والقدرية. ويقارب ما أشير إليه مدافعة الاسرلة والتصهين والتَغَربْ والتصهين التي اخترقت بعضا من مجتمعنا الفلسطيني اختراقا أفقيا رام الطوائف والمناطق والاجيال والمستويات المعيشية، فكان الاختراق عابرًا للطائفة والطبقة.

خلاصات
لا يمكننا الحديث عن عصيان مدني في ظل مجتمع منقسم ومأزوم هوياتيا ومجتمعيا، إن طبقيا ومعيشيا أو سياسيا- اجتماعيا، ولا يمكننا الحديث عن عصيان مدني ومجتمعنا يرزح تحت رحمة مجتمع ومؤسسة تتعامل معه باعتباره يهددها وجودا وتتعايش معه على أساس من مواطنة منقوصة ومأزومة، ولا يمكننا الحديث راهنا عن عصيان مدني في ظل تحديات جوهرية تمس صلب حياتنا كأفراد وكمجتمع، ولا يمكننا الحديث عن عصيان مدني والآلاف من الموظفين والعمال والمعلمين وأصحاب الحِرَف والورش والمصانع مرتبطة أرزاقهم ومعاشاتهم مع المؤسسة الإسرائيلية ومن يدور في فلكها، ومع المجتمع الإسرائيلي الذي يميز لحظويا بين مصلحته الغائية مع الداخل الفلسطيني ومصلحته الإستراتيجية المنسجمة مطلقا مع الدولة في جدل العلاقة مع مجتمعنا، ولا يمكننا الحديث عن سياسات العصيان المدني ولمّا ترتقي لجنة المتابعة العليا بصفتها السقف السياسي الأعلى الجامع للمكونات السياسية في الداخل الفلسطيني، تخطيطا وأداء وسياسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى