فصل الدين عن الدولة والحيّز العام… عواقب منتظرة
محمد خليل شباط
تزداد الأصوات المنادية في المجتمع العربي في الداخل مؤخرًا لفصل الدّين عن الحيّز العام، بعدما كان الخطاب الأساس عنوانه فصله عن السياسة فقط. وهذا ممّا قد أنذر منهُ الكثيرون سابقًا وحذّروا، أنّ كلّ تنازلٍ في نطاقِ المبادئ ستنبثقُ عنه مطالباتٌ لتنازلاتٍ أخرى أشدّ وطأةً وأقسى لهجة من سابقها. خطاب فصل الدّين عن الحيّز العام يزداد رواجًا بينَ العرب؛ وذلك بعد طرحه على السّاحة من بعض نوّاب الكنيست الإسرائيلي العرب دون الأخذ بالحسبان عواقب تنفيذ مثل هذا القرار على المجتمع العربيّ. لا يخفى على عاقلٍ ولا عاقلة أنّ هذا الخطاب مستوردٌ من دولٍ وحضاراتٍ لا تشبهنا في شيء سوى في التّكوين البشريّ الأساس، فالثقافة العربيّة المستمدّة من الدّين والعُرف والمنعكسة على المعاملات الاجتماعية والمحافل الثقافية ليست شبيهةً بالثقافة العلمانيّة الغربيّة المستمدّة من الفكر الإنساني بغالبيّتها. ما لا يطرحهُ السّياسيّون العرب الّذين يحاولون تمرير هذه الأجندات ويروّجون لهذه الأفكار أمام الشّعب هو ماهيّة التّغيير الذي قد يطرأ على المجتمع ومدى عمق الفجوة بينه وبين نمط حياتهم الحاليّ.
إنّ فصل الدّين عن الحيّز العام يعني فصله عن الثقافة والأدب والرواية والفنّ، ما سيجعل ثقافة التّعري والكتابة الإباحيّة الّتي ينبذها أغلبيّة شعبنا بموجب انتمائهم للدّين -مسلمين ومسيحيين- شيئًا مسموحًا ورائجًا. وعلمًا منهم بأنّ أغلب الشّعب مشغولٌ بالبحث عن لقمة العيش ومشاغل الحياة الأخرى؛ فإنّ مروّجي هذه الفكرة بخلوا عليهم بدراساتٍ اجتماعيّة وأمثلة حقيقيّة للتّغيير النفسيّ الذي أصاب المجتمع الّذي اتّبع نمط الحياة المذكور.
فبحسب منظمة الصحة العالميّة WHO)): في السنوات الـ 45 الماضية زادت معدلات الانتحار بنسبة 60% في جميع أنحاء العالم، وقد ازدادت هذه الأرقام في صفوف جيل الشباب بسبب الاضطرابات النّفسيّة وعلى وجه الخصوص الاكتئاب.
في مجتمعنا الذي ينتمي أغلبه إلى الدّين، سيصعب على الشّباب التّعامل مع مثل هذ النّموذج الفكريّ، الّذي أثبت أنّه سببٌ أساس بتأثيره السلبيّ على روحانيّة ونفسيّة الإنسان الغربيّ بالرّغم من التقدّم العلميّ والاقتصاديّ الواضح، وهذا- كما ذكرت في منشور الأسبوع الفائت- يُعزى إلى ماديّة هذا الفكر -العلماني- ونموذجه غير الواضح في التّعامل مع الإنسان ككيانٍ يجمع بين المادّة والنّفس والرّوح والعقل في مخلوقٍ واحد. كان هذا النّموذج الذي نشأ من الفكر الماديّ العدميّ سببًا في تغييب الأخلاقيّات الإنسانيّة عن المشهد العام؛ ما أخرج لنا الإباحية ونشرها بيننا وزاد في أمراض ومشاكل المجتمع في سبيل جني المال والشّهرة، ومن المشاكل التي زرعها هذا الفكر في إبعاده للدّين عن العلم الأكاديميّ كمثال: ازدياد نسبة الإلحاد بين البشر؛ لعدم قدرتهم على التّوفيق بين حقيقة الوجود في رواية خلق الإله للحياة وبين رواية المادّة العلميّة المبنيّة على نظريّات لا دليل عليها، فصار الإنسان الغربيّ كائنًا منفصمًا ففي الأعياد وأيام الأحد يمجّد ربّه ويزور الكنيسة وفي باقي الأيام والمعاملات يقوم بتغييب هذا الإله ووصاياه وتعاليمه، وهي مشكلة أخرى محدثة لم تكن منتشرة في عصور سبقت ظهوره وتطوّره.
إذا نظرنا مثلًا في معضلة الهويّة الجنسيّة، ففي فرنسا مثلًا باتَ ممنوعًا قانونيًّا على الممرضات والممرضين استخدام مصطلح “حليب الأم” خشية على مشاعر المتحوّلين جنسيًّا، (المتحوّلون جنسيًّا -ترانسجينديرز- هم أشخاص ولدوا كذكور وقرّروا إجراء عمليّات لتغيير خلقتهم ليصبحوا إناثًا، أو العكس) بحسب صحيفة الدّايلي ميل، فحتى المصطلحات الصحيحة والطبيعيّة صارت غير ملائمة لأنّ المجتمع نفسه أصبح يحتوي فئةً غير طبيعيّة من البشر، ودعم الحكومات لهذا النموذج الفكري- العلمانيّة- يجبرهم مرةً تلو المرّة على ابتكارِ مصطلحاتٍ جديدة تلائم الواقع الجديد، الأمر الّذي يؤدّي إلى إيجاد مجتمع منفصم وغير متجانس باسم الحريّة والإنسانيّة والّذي يدفع ضريبة هذا الانزلاق الأخلاقيّ هو الإنسان نفسه، لابتعاده عن فطرته الأصليّة الّتي فطره اللهُ عليها، والشيء بالشيء يُذكر فالعبث بفكرة الفطرة أنشأ لنا كمجتمع إنسانيّ مشكلةً أخرى وهي مشكلة الشذوذ الجنسي (والتي بمقتضاها يعطى الذّكر حرية الزواج وممارسة الجماع مع ذكرٍ آخر، وذات الشيء بالنسبة للإناث) حتى صارت بعض مستشفيات أوروبا تمنع تسجيل أب وأم في قسم الأطفال حديثي الولادة بل صار لزامًا أن يسجّل في الملف أب 1 و أب 2 وكذلك الأمر بالنسبة لمقام الأم.
كلها مشاكل أتت بها العلمانيّة الحديثة لتحييدها الدين عن الحيّز الاجتماعي، في حين أن الدّين جاء ليضع الضّوابط للإنسان لكي ينعم بعيشة سويّة وينشغل بما فيه صلاحه وصلاح مجتمعه، والآن بتنا نشهد تحويل الدّين إلى شيء غير الذي نزل، فالأنبياء والرسل لم يجلسوا في الصوامع والمعابد بعيدًا عن الحياة ويقولون هنا الدين، بل ساروا في الأسواق وتاجروا ورعوا الغنم واشتغلوا بالسياسة واشتركوا في المعارك وكل هذا كان تحت اسم الدّين ووفق ضوابطه … والدّين ليس ضيّقًا كما يزعمُ البعض ممّن يريدون تهميشه، بل الأصل فيه الإباحة والحلال إلّا في مواضع معيّنة نزل فيها المنعُ والتّحريم بما فيه خيرُ النّاس كما نرى اليوم. العلمانيّة والفكر المادّي زادوا في مشاكل الإنسان ولم يحلوها كما ادّعوا، وباسم الإنسانيّة والحريّة دمروا فطرة كثير من الناس وتركوهم في ضياع وانفصام، فجعلوا في البيت إلهًا وفي المعبد إلهًا أمّا في التعامل الإنساني فتتم المطالبة بتغييبه، وهذا عبث بعقول الناس وضمائرهم ونفسيّاتهم وهذا ما سيصيبنا جميعًا في حال تمّ تمرير هذه القوانين والسّماح بتنفيذها وتطبيقها علينا، فكما يرفض أنصار العلمانيّة فرض النمط الدّيني عليهم فمن باب أجدر أن يكون من حقّ أهل الدّين رفضهم فرض النموذج العلمانيّ عليهم.