أوراق في معنى العصيان المدني…الورقة الثانية
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
اتفق العديد من الباحثين وعلماء السياسة وخبرائها، أن كل فعل ونشاط سياسي يصبّ في مصلحة قضية “ما” هو نوع من أنواع العصيان المدني.
العصيان المدني بطبيعته وفلسفته وطروحاته، سلمي، لا عنفي وكل ما ينبثق عنه ينطلق من السلمية والعمل السلمي، أي النشاط غير المسلح، ولذلك كان للعصيان المدني بسياقاته اللاعنفية أنواعا شتى من الممارسات والنشاطات والاحتجاجات، بحيث أضحى كل فعل مهما صَغُرَ مركبٌ من مركبات العصيان المدني، وكل ذلك شرطه تحقيق الهدف الذي من أجله قام هذا العصيان، وكافة النشاطات إن لم تُراكم ذاتها وتتواصل فيما بينها لتحقيق الهدف، فالعصيان لن يأتي أكله.
من مظاهر العصيان المدني..
العصيان المدني، له ألوان شتّى، فالمظاهرات والوقفات الاحتجاجية والإضرابات بكل أنواعها وصلوات الجمع في أماكن عامة، وتعطيل الحياة العامة ورفع الشعارات والكتابات على الحائط والمهرجانات، وقوافل السيارات والتحرش المروري، وتنظيم المواكب ونشر البيانات والمقالات والرسائل الاحتجاجية والغاضبة، عبر صفحات التواصل الاجتماعي و”الجرافيت” على الحيطان، أو على غيرها من الأدوات، والالتزام بلبس زي خاص أثناء الوقفات أو الاعتصامات والجلوس على الأرض في المرافق العامة، أو الشوارع الرئيسة ونشر المقالات والبيانات وتوزيع المناشير، كل ذلك من أنواع العصيان المدني. وهذا الذي ذكرت، يشكّل الخطوة الأولى والقاعدة الأساس للنشاط التالي التصاعدي الذي يواجه المؤسسة الرسمية مباشرة، ومن ذلك، إضراب المدارس ومنع افتتاحها، وإضراب طلاب الجامعات والكليات، وتحفيز الطلاب للمباشرة بأعمال لا عنفية تعبر عن القضية، فتاريخيا شكّل الطلاب وخاصة الجامعيين والثانويين المادة الحية لتغيرات سياسية جذرية في الحياة العامة، هذا ما حدث في ستينات القرن الماضي في فرنسا فيما عرف باحتجاجات مايو 1968، ولقد أصبح عام 1968 مرادفًا لأكبر حركة احتجاج عالمية في القرن العشرين، فانتقلت الى مدن عالمية مثل سان فرانسيسكو وطوكيو والجزائر وبرلين، وكان صلب الاحتجاجات على الظلم والتوحش الرأسمالي.
يشكّل الطلاب المادة الحية للعصيان المدني وللمواجهات المباشرة مع النظم القمعية والفاشية على حد سواء، وكانت تحركاتها الى جانب العمال سببا مباشرا في تغييرات عالمية، وفي سياقنا الفلسطيني، شكّل الطلاب المادة الحية “الثورية” في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المحتلة عام 1967، وكان للطلاب الدور المركزي في الداخل الفلسطيني في الجامعات في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، ويمكنني القول إن قيادات الداخل الفلسطيني اليوم هي خريجة النشاط الطلابي في تلكم السنوات.
في سياقاتنا المخصوصة في مواجهة مدّ العنف والجريمة بكل أنواعها، نحتاج إلى هذا الحراك الطلابي الشبابي، ليس بكونه ثوريا بفطرته وحسب، بل ولأنهم سيتحملون نتائج هذه اللحظات مستقبلا وبالتالي تصبح مسألة مواجهة العنف على معنيين، معنى مجتمعي، ومعنى سلطوي، ففي الأولى، يكون للدور الطلابي مجتمعيا بكل ما يتناسل عنه من نشاط، الدور الحقيقي والمباشر في مواجهة مباشرة معه بشكل لا عنفي يفضي فيما بعد إلى نتائج إيجابية في توجيه أجيال الى العمل الإيجابي من خلال بوتقة النشاط الطلابي. في السياق المقابل فإن كل مواجهة مع السلطات أي كانت الأدوات التي تعتمدها لقمع النشاطات الطلابية، ستفضي إلى تعزيز مكانة الشباب والطلاب مجتمعيا كقيادات واعدة تتقدم حركة الحياة، سواء من خلال حراكها النضالي اليومي وما يصحبه من نشاطات أو فعاليات من جهة، وكمن يملك تجربة يُراكمها نضاليا ومجتمعيا.
أساليب لا عنفية تخدم العصيان المدني
في جرد تاريخي لكل من تعاطى مع العصيان المدني كأداة لتحقيق مطالبه العادلة، سنجد أننا أمام ثلاثة أنواع كبرى من الأساليب، الأسلوب الناعم، ممثلا بالمظاهرات والإضرابات وكل ما يتناسل عن مثل هذه الأدوات، الأسلوب الخشن والمتمثل بمقاطعة الحكومات ورفض التعاون معها، والأسلوب الخارج عن القاعدة، وممثلا بإنشاء حكومة ظل (لنتذكر الانتفاضة الأولى وكيف قادت اللجان الشعبية المنبثقة عن الفصائل تلكم المرحلة التاريخية الهامة من مسيرة شعبنا الفلسطيني في مواجهة الاحتلال) وهذه الأساليب قد تجتمع معًا في مواجهة الأنظمة الرافضة للاستجابة لمطالب الجماهير، بيد أنّ هذا العصيان المدني لا تكتب له الحياة إن لم يتعاط مع الشروط الموضوعية المتعلقة بنجاحه، ويمكن تقسيم هذه الشروط إلى ثلاث حزمات، حزمة الحاجة، حزمة القدرة، حزمة العمل.
في حالة حزمة الحاجة، ثمة شروط أساسية يجب أن تكون قد نضجت للحديث العملياتي عن العصيان، فمثلًا في عام 2012 تحدثت القيادات السياسية في الداخل الفلسطيني عن حاجتنا لمواجهة الخدمة المدنية عبر لافتة العصيان (سأتطرق لها في الورقة القادمة) وكانت النتيجة أن نجحت المؤسسة الإسرائيلية بالالتفاف على هذا التهديد بأن سرّبت الخدمة المدنية إلى مجتمعنا بأدوات كثيرة ناعمة جدا. لذلك مسألة الحاجة إلى طرح العصيان المدني يجب أن تكون ناضجة معرفيًا وأخلاقيًا، إذ مجرد رفعها والتهديد بها قد تتحول إلى حالة كيدية مرتدةboomerang) )على دعاة طرح العصيان كما حدث عام 2012 وبالتالي فحاجتنا إلى العصيان ليست رغبوية، بل هي في الأساس مصلحة عليا إستراتيجية تصب في مصلحة الأجيال القادمة، وترسم تبعاتها على تلكم الأجيال في كافة شؤون حياتهم، ولذلك كانت حزمة القدرة شرطًا آخر من شروط تحقيق العصيان المدني وتحقيق نتائجه المرجوّة، ولذلك ثمّة حاجة إلى تحديد واضح للمطالب، وعلى مدى القدرة على المتابعة ومواجهة السلطة والاستعداد النفسي للدخول معها بمفاوضات إذا لزم الامر، وقدرة دعاة العصيان على تحمل التبعات المباشرة وبعيدة المدى، المترتبة على مثل هذه الخطوة، وهذا بحاجة إلى الصبر والمصابرة وإلى نَفَس طويل، خاصة مع أنظمة ديموقراطية تعتبر اللعبة السياسية وشدّ الحبل من تخصصاتها، ومن ثمّ فهنا تبرز الحاجة والقدرة على تحقيق التفاف جماهيري حول المطالب لا يتسرب إليه الوهن والضعف، خاصة وأن مثل هذه القضايا تحتاج إلى زمن لتحقيق الأهداف المتوخاة، وخلال هذه الفترة تكون النشاطات وهو ما يحتاج لمقدرات مادية ومالية تردف هذا النشاط وتحفظ زخمه، وهذه النقطة، الالتفاف الجماهيري، مهم للغاية باعتبار أنهم -أي الجماهير- صاحب المصلحة الأساس، وهم من سيستفيد من تبعات نجاحات العصيان، ولذلك كلّما كانت الفئات العمرية ممثلة بالمشاركين في العصيان أكثر وأعرض وأوسع، كلّما كانت تفاعلات المجتمع مع العصيان أكبر وآثاره على المؤسسة الحاكمة أكبر، وكلّما قارفت المجموعة القائدة للعصيان أعمالا إبداعية مختلفة لتحقيق الأهداف التي أعلن عنها وأصبحت واضحة جلية استوعبها الصغير والكبير وكافة شرائح المجتمع، كلّما كانت وسائل الضغط على المؤسسة أكبر وأشدّ، وكل هذا يتطلب مرونة من القيادة التي تُسَيِرُّ هذا العصيان، بحيث تحمل العصا من الوسط، ترقب بعين حذرة مجتمعها وكيفية التفاعل مع العصيان وترقب المؤسسة وكيفية تجاوبها وردّات فعلها. وعلى كل الأحوال، يكون صانع الحدث هم قادة العصيان بحيث يجعلون السلطة دائمًا في رد الفعل، لا العكس، وهذا بدوره ينقلنا إلى الحزمة الثالثة والأهم، وهي حزمة العمل إذ العمل يحتاج إلى تخطيط استراتيجي قريب المدى وبعيد المدى، وتنجم عن هذه المخططات أهداف مرحلية وأخرى بعيدة المدى، وهي بين ذلك تقارب تحقيق الأهداف دائما عبر عملية مراجعات مستمرة لا تتوقف، تسدّد وتقارب، ودائما الأفكار المتناسلة مما ذكرت تقارب مبدئي اللاعنف والصبر، وهذا معناه أننا أمام مشروع وهذا يتطلب شرط فهم الأحوال المحيطة بالعصيان، سواء محلية تتعلق بمن يخصهم الاعتصام أو المؤسسة المواجهة- في حالتنا المؤسسة الإسرائيلية ومن خلفها المجتمع الإسرائيلي بكل قواه الحية- وفهم التحولات الجارية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية داخلية وخارجية، ومن هم اللاعبون الأكفاء محليين وغير محليين ممن يمكنهم التأثير لصالح تحقيق الأهداف. هذا كله يحتاج إلى كفاءات وخبرات وفريق قوة بشرية رافدة للعصيان تمارسه وهي مقتنعة به.