أوراق في معنى العصيان المدني… الورقة الأولى
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
في الأشهر الأخيرة طفا على سطح السياسة الإسرائيلية، مصطلح العصيان المدني وقد تطرق له عدد من رؤساء السلطات المحلية اليهودية، وبعض الساسة وممثلي نقابات مهنية وتجارية تضرروا جميعهم من تداعيات وباء كورونا، خاصة في البعد الاقتصادي، وقد تم طرح هذا التحدي أمام السلطة في سياق إسرائيلي صرف معادلته: وطن، مواطن، انتماء، باعتبار أنهم يقدّمون كافة الواجبات اتجاه الدولة الوطن، ومن ثمّ فهم يستحقون من الدولة كل المساعدة التي تعينهم على تجاوز أزماتهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، برسم أن وظيفة الدولة وفقا لهذا المفهوم تتجاوز بُعدها الوظيفي التعاقدي، إلى حالة تداخل بين المواطن اليهودي والدولة، بناء على أن الدولة قامت من أجلهم وهم بدورهم يعززون استمراريتها في سياق تبادلي تعاقدي ومصلحي، أرست قيمه الحركة الصهيونية ومرحلة (الييشوف).
عادة ما تتخلق بدايات العصيان المدني في عدم طاعة أوامر المؤسسة الحاكمة، من مثال: عدم دفع الضرائب (في حالة المجتمع الإسرائيلي ترتفع مطالب عدم دفع غرامات الكورونا التي فرضتها المؤسسة الإسرائيلية وعدم الاستجابة للإغلاقات المفروضة) وقد اعتبرت تصريحات رئيس حزب (يسرائيل بتينو) الداعية لرفض قرارات الحكومة الإسرائيلية فيما يتعلق بتوجهاتها إزاء وباء كورونا، نوعا من الدعوة للعصيان المدني، ولحقه بعد ذلك عدد من أعضاء الكنيست من أحزاب (يش عتيد) و (أزرق ابيض). في هذا السياق صرّح البروفيسور حامي بن نون، صاحب كتاب “العصيان المدني”: “الديموقراطية قامت من أجل رفاهية مواطنيها وعندما تضر بهم فمن الواجب معارضة السلطة، والسؤال هو متى يكون ضرر السلطة بحق المواطنين غير شرعي، ومتى هذه من نوع أسئلة التي تعني رفع العلم الأسود … عندئذ ثمة مقام لرفع سلاح يوم القيامة “العصيان المدني” بوجه السلطة- كلكيست 9-9-2020). في هذا السياق، أشارت صحيفة هآرتس في عددها الصادر يوم 22/4/2020 أن مجلس الأمن القومي بحث إمكانيات حدوث عصيان مدني في البلاد، أو تشويشات وفوضى عارمة في المجتمع، وذلك احتجاجا على الأوضاع التي وصل إليها المواطن الإسرائيلي اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا في ظل الكورونا.
نلاحظ أن العصيان المدني في السياق الإسرائيلي المطروح في أكثر من موقع وصعيد، ينطلق من منطلق المواطنة الكاملة والحقوق التبادلية بين المواطن الإسرائيلي والدولة، وليس الحكومة باعتبار الحكومة أداة تصريف مصالح “المواطنين الإسرائيليين” في هذا السياق، وبالتالي الدعوات الإسرائيلية للعصيان المدني ليست على كيانية الدولة بل على سلوك السلطة التي يمكن أن تستبدل (في الانتخابات مثلا) وهذه السلطة القادمة تستجيب لمطالبهم أو تصل وإياهم إلى مصالحة في منتصف الطريق وهذا ما تقوم به حكومة نتنياهو مؤخرًا.
في السياقات الإسرائيلية، حذّر العديد من علماء السياسة الإسرائيليين من تغلغل الفردانية على حساب المجتمع المدني، وتآكل الأخير، مما يهدد معاني المواطنة ومحايثاتها (أي المواطنة كما هي جوهر مستقل لا تخضع لمؤثرات جانبية أو بيئية) وبالتالي تتعاظم مصالح الفرد كذات على مصالح الامة/الدولة/الوطن التي أقيمت من أجل يهود العالم- انظر على سبيل المثال لا الحصر قانون القومية، كمثال صارخ على هذا المعنى- وفي هذا السياق يشير أستاذا العلوم السياسية يتسحاق جال-نور ودانه بلاندر، إلى مثل هذه الظاهرة في كتابهما، النظام السياسي في إسرائيل، إذ يحذّران من تنامي ظاهرة الفردية في سياق الليبرالية الإسرائيلية وتأثيراتها الصاعدة على مفاهيم ومعاني المجتمع المدني “في إسرائيل ثمة توجهات متنامية سواء فيما يتعلق بالتعليم الوسيط او مستويات الحياة تدفع نحو نمو قيم ما بعد المادية.. بحث من أوسط تسعينات القرن الماضي يشير إلى معاني تتعاظم في سلم تغيير القيم المجتمعية الإسرائيلية من مثل تنامي منظمات نسائية ومنظمات الخضر ومنظمات حقوقية تطالب بحقوق الشواذ جنسيا، وهذه القيم تبحث عن مسارات سياسية تجلت أولى معالمها في اعتصامات عام 2011- المجلد الأول ص48”.
هذه المعاني التي تطرقا اليها تؤسس مستقبلا لتوجهات تتعلق بالعصيان المدني، مع الإشارة إلى أن ما يحدث من اعتصامات ضد رئيس الحكومة بسبب تهم الفساد، هو وجه من أوجه العصيان المدني وجدلية العلاقة القائمة بين الفرد “اليهودي” والدولة/ الوطن.
الداخل الفلسطيني ودعوات للعصيان المدني
تعالت أصوات عديدة من اطراف من الداخل الفلسطيني، سياسية وشعبية ودينية وسلطات محلية، وتعالت أصوات شبابية تطالب كلها بالعصيان المدني بسبب تقاعس المؤسسة الإسرائيلية في مواجهة العنف، خاصة تفشي السلاح المهرب من معسكرات الجيش وانتشار الجريمة المنظمة، وفرضها نوع من العنف والخوف في أوساط مجتمعاتنا في الداخل الفلسطيني وارتفاع الأصوات القيادية والعامة التي تتهم السلطات، خاصة الشرطية والأمنية بالتواطؤ مع الجريمة المنظمة، لتفكيك مجتمعنا وإعادة هندسته وفقا لقيم إسرائيلية تضمن ولاء وصمت وخَوَر الداخل الفلسطيني.
العلاقة بين المجتمع العربي الفلسطيني، الحامل للبطاقة الزرقاء والمؤسسة الحاكمة ومنظوماتها المختلفة، علاقة مأزومة مؤسسة إسرائيليا على مبادئ لم تتغير منذ قامت إسرائيل، وإلى هذه اللحظة، خلاصة هذه المبادئ أننا ما زلنا نشكل خطرا إستراتيجيا على الدولة والمجتمع الإسرائيلي، وأننا امتداد للقضية الفلسطينية ووجودنا يذكرهم بديمومة هذه القضية والحقوق التي لا تنتهي وتمضي بالتقادم، كمثل حق العودة، سواء للمهجرين داخل الوطن أو المشتتين في أصقاع الأرض، وبالتالي فالمعادلة القائمة بين الطرفين تقوم على أساسات أمنية ابتداء: الأمن بكل مرافقه وتفرعاته ذات الصّلة معنا، ويهودية الدولة (قانون القومية جاء كسياج حامي لهذا المعنى في ظل ما أشرت اليه سابقا من تغلغل قيم اللبرلة الفردية الوافدة من الولايات المتحدة والمنظومة الغربية) والإنقاص الدائم من قيم ومعاني المواطنة، فلسنا متساوين في الحقوق وحتى أولئك الذين يخدمونها في مسالك الامن: الشرطة، حرس الحدود، الجيش، السجون، المخابرات لا يتحصلون على ذات الحقوق التي يحصل عليها يهودي قادم جديد، عليه فكل اعتراض على سياسات السلطة اتجاهنا تموضعه المؤسسة في مربع المصلحة المتعلقة وجوديا بها كدولة وطن لليهود، وليس للعربي الفلسطيني الذي يعيش على أرضه ولو كان خادما متميزا لها، فالمؤسسة تسارع في منح أمثال هؤلاء امتيازات وتحفيزات وفوائد عادة ما تكون مادية صرفة تتجلى في المصالح التجارية والاقتصادية وتسهيل الثراء لأمثال هؤلاء.
في هذا السياق، من المهم أن نؤكد على أن العديد من المثقفين والأكاديميين العرب في الداخل الفلسطيني سعوا لتقديم إجابات على معنى العلاقة بين المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني والدولة، وصدرت العديد من الوثائق، منها على سبيل المثال لا الحصر التصور المستقبلي ووثيقة حيفا وغيرها، وكلها لقيت رفضا إسرائيليا فضلا عن رفض قطاعات من أبناء الداخل الفلسطيني لها من مثل الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، التي رفضت كافة هذه التصورات وقدّمت تصورها المعروف بالمجتمع العصامي الذي ينطلق في التعاطي مع الدولة كظرفية سياسية- زمانية ويؤسس ذاتا وجودية من خلال ما نملك، باعتبار أن اليد العليا خير من اليد السفلى. والمؤسسة الإسرائيلية رفضت كافة التصورات لجدل العلاقة في فهم معنى المواطنة الذي تقدمت به الأوراق السابقة الذكر، وهو ما سيلقي بظلاله الكثيفة على معنى العصيان المدني وكيف ستتعامل معه المؤسسة الإسرائيلية، وللتذكير فإنَّ المؤسسة الإسرائيلية تعاطت مع هبة القدس والاقصى التي هي تجل هام وراقي من تجليات العصيان المدني، بالنار والحديد، ثم وجدنا من قيادات الداخل الفلسطيني من بادر للجلوس مع من أصدر أوامر القتل (أيهود بارك والبروفيسور بن عامي وزير الامن الداخلي آنذاك) ليتم عملية إجهاض محاولة هي الأولى من نوعها في تاريخنا الفلسطيني في الداخل لصالح حسم قضايا تتعلق بجدل العلاقة مع إسرائيل.
في معنى العصيان المدني..
ظهرت أولى الكتابات حول فكرة العصيان المدني الحديث، في منتصف القرن التاسع عشر، وذلك على يد الكاتب الأمريكي الثائر على العبودية وتغول الرأسمالية (هنري دايفيد ثوراو)، في مقاله: (العصيان المدني) المنشور سنة 1849م، وذلك عقب امتناعه عن دفع ضرائب الحرب، احتجاجًا على العبودية، والقمع، والحرب التي كانت تخوضها الولايات المتحدة ضد المكسيك.
والعصيان المدني من حيث جوهره سلمي ويعتمد اللاعنف لتحقيق مطالبه، وهو شكل من أشكال المقاومة السلمية المتحضرة ويعتمد مخالفة القوانين بوسائل سلمية، ويتخذ العصيان المدني صورا متعددة ومتنوعة (بيان ذلك في الورقة الثانية) كلها تصب في الهدف المعلن الذي يسعى دعاة العصيان لتحقيقه، وشرطية نجاحه كثيرة (بيان ذلك في الورقة الثانية) ولكن في الأساس وضوح الهدف الذي من أجله العصيان، والوقوف خلفه من زمر المجتمع على اختلاف مكوناتها وهيئاتها، وقد اشترط بعض منظري العصيان أن يكون ثلثي الناس مؤيدين للعصيان، بل ذهب الكواكبي في مباحثه لمواجهة الاستبداد والطغيان إلى: “يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد… إن معرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، كما أن معرفة الغاية لا تفيد شيئا إذا جُهل الطريق الموصل إليها. والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا، بل لا بد من تعيين المطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل، أو الأكثرية التي هي فوق الثلاثة أرباع عددا، أو قوة بأس، وإلا فلا يتم الأمر. حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعا، يكون الإقدام ناقصا نوعا. واذا كانت مجهولة بالكلية عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم، فهؤلاء ينضمون إلى المستبد، فتكون فتنة شعواء. وإذا كانوا يبلغون مقدار الثلث فقط، تكون حينئذ الغلبة في جانب المستبد. ثم إذا كانت الغاية مبهمة ولم يكن السير في سبيل معروف، ويوشك أن يقع الخلاف في أثناء الطريق، فيفسد العمل أيضا وينقلب إلى انتقام وفتن. ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص وإشهارها بين الكافة، والسعي في إقناعهم، واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك، بل الأوْلى حمْل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم.” طبائع الاستبداد المطبعة الحلبية بدون تاريخ ص183-182…. بناء على ما سبق العصيان المدني، بديل كفاحي نضالي يتردد عادة عند احتدام الأمور ونكوص اعقاب الحكومات الديموقراطية وغير الديموقراطية- شهدت البشرية عصيانًا مدنيا ضد الاحتلالات كما حدث في ستينات القرن الماضي، حين غزو الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، وغاندي في إعلانه العصيان المدني ضد الاحتلال الإنجليزي لبلاده، وفي فلسطين في إضراب عام 1936 عصيانا مدنيا كامل الأركان- عن توفير مطالب الجمهور التي عادة ما تكون صادقة وملحة وجوهرية، تمس حيواتهم اليومية بل وجودهم الذاتي والمعنوي أو مناهضة للنظم الفاشية والاستبدادية والاحتلالية رفضا للاحتلال أو للسياسات الصادرة عن نُظُم مستبدة تمس سياساتها حيوات الناس وكرامتهم.