النبيّ الأخير والحسّ الوطنيُّ الشّريف
محمد شباط
يحدثُ أن يمرّ أحدُنا ببعضِ المنشوراتِ الّتي تُنادي بالتّخلّي عن فكرةِ الوطنيّة واعتناقِ الإسلام وحدهُ مجرِّدًا صاحبهُ مِن كُلّ مُيولٍ قَومِيٍّ أو وَطَنِيّ. وهذا من أعجب ما قد يقرأُ القارئ، فإن كان ذلك يَدُلُّ على حُبِّ صاحبِهِ للنّبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- فقد أساء إظهار صورتِه، وإنْ كانَ يَظُنُّ القائلُ أنّهُ هكذا يهتدي بهديِ النّبي العظيم -عليه الصلاة والسلام- فقد خالفَ هَدْيَه.
ولقد روي ما روي في الأثرِ عَن حُب النّبي الشّديدِ لأرضِهِ، كما يليقُ بالإنسان السويّ الوفيّ، فلقد كانَ النّبي هو الأسوةُ الحسنةُ وحاملُ الحُجّةِ البيضاء من ولدِ آدم، فلماذا يتمُّ التستُّر عن هذا الجانِبِ الأصيلِ من جوانبِ حياته؟ ألم يبكِ النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- من فرط حُزنِهِ عندما أُجبر على الهِجرة؟ ألم يقُل وخلّدت الكتب قوله حين قال: “لولا أني أُخرجتُ منكِ ما خَرَجت”؟
وبعدَ هِجرتِهِ واستئنافِ بناءِ دولته الناشئة في المَدينة التي نوّرها بنورِ الحقّ الذي حَمَله، ألم يحارب دفاعًا عنها ببسالة في غزوة الأحزابِ عندما حاصرته الجيوش وهو في قلة؟ بدل أن يترُكها ويُهاجرَ إلى بُقعةٍ أخرى هو والّذين آمنوا بِهِ؟ ألم يجمع جيشا قوامُه ثلاثون ألفَ رجُل في زمنِ العُسرةِ والفَقر؟ ليدافعَ عن بلاده وشعبهِ في وجهِ الجيش البيزنطيّ الّذي كان قوامه مئةُ ألف جنديّ؟ ألم يخرُج بهم إلى تبوك في سفرٍ مُرهقٍ لملاقاة جيش بيزنطة عندما أتاه الخبرُ من أعينه في الشّام أن بيزنطة أعدّت العدّة لسحقِ المُسلمين وإعادة شبه الجزيرة إلى ما كانت عليه من فرقة وشرك ووثنية؟
إنّ الرّسولَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم قد أبانَ بأفعالهِ الصراط المستقيم، وجسّد بقراراته أوامر القرآن الكريم، فقد كان خُلُقُهُ مُستمدٌّ منه لا من آراء البشر، وكانت أفعالُهُ سَعيًا لِجعلِ هذهِ الكلمات الخالدة حقيقةً لا مجرّدَ كلماتٍ تُتلى وتُنسى حالما تلمس جلدة الكتاب الجلدة. فكان النبي عليه الصلاة والسلام التجسيد للرجل الكامل، والإنسان الرباني، الذي لا يَظلِمُ ولا يقبل بالظُّلم على نفسه وشعبه وأهله، وكانت الوطنيّة التي عاش عليها تطبيقًا للوطنيّة المثالية، فقد طبّقها بالفِعلِ والقولِ من قبلِ أن يخطُرَ في بالِ المجتمعِ الحديثِ إحداثُ هذا المُصطلح. فكانَ يقفُ في المواضعِ الّتي تحتاجُ الوقوف من أجل بلدهِ ووطنهِ، تجسيدًا لصراع صاحب الحق من أجل حقه، في مواجهة صاحب الباطل الذي جاء يسلبه هذا الحق الذي أعطاه إياه الله سبحانه وتعالى.
أما الوطنيّة المجردة من الإسلام الّتي يدعو إليها بعضُ العربِ حديثًا فهي حسٌّ عامّ، قد يملكه المسلم وغير المسلم، والمتمسّك بدينه وغير المتمسّكِ بدينهِ، وهو -الحسّ الوطنيّ- ليس حكرًا لقوم دون قوم، والله يقضي بين الناس يوم يحضرون أمامه، أمّا المسلم المتيقنُّ أنّ كل شيءٍ بيد الله، فلا يليقُ به أن يسير خلف قطعانٍ تهمّشُ الدّين في نضالها من أجل الحقّ! وأيّ حقٍّ هذا الذي نناضل من أجله إن تجاهلنا أصله وعزفنا عن مرادهِ وتعاليمهِ بعد أن تبيّنَ أنّهُ الحقّ؟ فلمّا رأى النبيّ إصرار أهله في قريشٍ على محاربة الحقّ والانتصارِ للباطلِ تركهم، وعندما أنشأ مع أهله الجُدد حُكمًا مبنيًّا على العدلِ والإحسان، حارب من أجلهِ عندما حوربَ، ولم يترُك الميدانَ خاليًا لمن أرادَ الاستيلاء على وطنهِ وكلّ ما حملهُ هذا الوطنُ من معاني الإيمانِ والعدالةِ والصّلاح.