الرصاص الذي يقتلنا
صالح لطفي- باحث وحلل سياسي
أثار اغتيال المحمدين، محمد ناصر حمد من مدينة أم الفحم بعيد صلاة الجمعة الفائتة، والقيادي الاسلامي محمد أبو نجم من مدينة يافا، غضبا عارمًا في الداخل الفلسطيني، ليس على القتلة والمجرمين فحسب، بل وعلى السلطات الإسرائيلية بصفتها المسؤولة المباشرة عن أمن وسلامة مجتمعنا الفلسطيني.
مقتل المحمدين، كشف مجددًا عن حجم الأزمة التي يعيشها مجتمعنا وهشاشته من جهة، وانفلات أرباب الجريمة من عقالهم بعدئذ اطمئنوا إلى حماية السلطة لهم، وتردّد المجتمع من مواجهتهم، ليس خوفا ورهبا فحسب، بل وبسبب النتائج التي قد تحدثها تداعيات الردود، ومع ذلك فالمجتمعات كما تكشف اسرار بناها الداخلية، أن حدّ الإشباع في الجريمة سيدفعه فطريا لمواجهتها، وعادة ما تكون المواجهات صادمة ليس بسبب قسوتها فحسب، بل وبسبب نوعيتها ومداها الزماني والمكاني، خاصة إذا تعرض أرباب الجريمة للشرفاء والمخلصين في مجتمعاتهم كسياسات لفرض سيطرتهم شبه المطلقة على المجتمع، في ظل حمايات السلطة لهم، ففي الأنظمة الفاسدة التي تتعامل مع المواطنين كأعداء، تكون سياسات قتل الشرفاء والمخلصين من ضمن سياسات ضبط تلكم المجتمعات كضرورة للتخلص منهم، برسم كونهم مرجعيات قد تؤسس لما يناهض سياسات تلكم الأنظمة، وإسرائيل ليست ببعيدة عن ذلك.
نحن في الداخل الفلسطيني نقترب من لحظة مواجهة الحقيقة، حقيقة أن عدونا مشترك ومتكاتف.
المجرمون والقتلة وعصابات الإجرام المنظم من جهة، والمؤسسة الإسرائيلية من جهة أخرى، وبات واضحا وجود اتفاق بينهم، أقلّه استغلال المؤسسة لحالة الفلتان التي تعتور مجتمعاتنا. وتجتمع مع هذه المصيبة النازلة علينا مصيبتان هما أكبر وأخطر، الجهل وأزمة الدين والتدين بين الشباب والناشئة، فمجتمعاتنا المحلية تنظر إلى أرباب الجريمة والعنف على أنهم أعداء لها، وإن نافق البعض معهم وأبدى لهم كلاما معسولا يشعرهم ببعض القيمة والأمن والأمان.
من نافلة القول الإشارة، إلى أن الجريمة والعنف تضرب مجتمعاتنا المسلمة أكثر بكثير من المجتمعين المسيحي والدرزي، وهو موضوع يحتاج إلى بحث ودراسة معمقين، لسبر أغوار نسيج العلاقات الاجتماعية والبينية والخارجية في تلكم المجتمعات، وكيف حافظت حتى هذه اللحظات على صيرورتها، علما أن المجتمع الدرزي بات في العقد الأخير، يعاني من الجريمة المنظمة تحديدا لأسباب تتعلق بعوامل ذات صلة بالمتغيرات الاجتماعية وصلتها بالأسرلة المتسارعة، والتخلص من منظومات قيمية صارمة حافظت على هذا المجتمع.
جهات رسمية تتورط في القتل
كشف موقع (واي نت) الإخباري، يوم الاثنين المنصرم، عن تواطؤ جنود وقيادات من الجيش الإسرائيلي في سرقة 93 ألف رصاصة من معسكر (تسئاليم) في النقب، وكان ذات الموقع قد كشف عن السرقة قبل شهر تقريبا، وواضح أن هذا الكمّ الهائل من الرصاص قد دخل مدننا وقرانا ليقتلنا ويثير الرعب بين عموم الناس. هذه العيّنة من السرقات التي لاحقها الإعلام الإسرائيلي تكشف جيدا عن جدل العلاقة بين المؤسسة الإسرائيلية بمختلف أذرعها وأرباب الجريمة في الداخل الفلسطيني، فالعلاقة بين أرباب الجريمة في الداخل الفلسطيني والمؤسسة الإسرائيلية، ليست مجرد علاقة مصلحية تقتضي قيام أرباب الجريمة بجرائمهم مقابل سكوت الشرطة، بل تأسست علاقة جدلية بين الطرفين تقتضي تقديم خدمات متبادلة تصب إستراتيجيا في مصلحة المؤسسة المتمثل بتفكيك مجتمعنا العربي عبر إغراقه بمختلف انواع المخدرات والاتجار بالسلاح ونشر الفوضى المجتمعية، مترافقا ذلك مع رفع مستمر للمستويات المعيشية للأفراد، وتعميق الجهل المعرفي التاريخي والديني والوطني لدى أجيالنا الناشئة، لخلق جيل منبت عن تاريخه وحاضره وعن تراثه ودينه، وهذه بحد ذاتها مصيبة وطامّة، فلا مستقبل لمن لا يملك تاريخا وهوية ووجودا، وفي نفس الوقت تفكيك البنية الجماعية لمجتمعاتنا، سواء كانت عائلية أو سياسية، وجعل الناس تفكر فرديا على قاعدة “أسألك اللهم نفسي”، يقابله مكاسب مالية مليونية لهؤلاء الذين يقدّمون أكبر هدية في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فما لم تستطع المؤسسة الإسرائيلية تحقيقه بصولجانها وقوتها، يحققه أبناء جلدتنا في أقذر عملية خيانة في تاريخ قضيتنا العادلة، إذ الفارق بين المخبر/العميل والمجرم العميل، يدركه كل عاقل، فإذا كان المخبر يتابع أخبار آحاد الناس يرصدها ويرسلها بغض النظر عن الطريقة، فإن المجرم العميل يدمّر أجيالا كاملة يغرقها في السموم والمخدرات وفوضى السلاح، يرافق هذه العملية فقدانا شبه مطلق لدور الأسرة.
الحاج ناصر خليل حمد، وعبر الإعلام كشف عن حقيقة تورط الشرطة في مقتل ابنه محمد، ويمكن لكل قارئ وقارئة العودة إلى تصريحاته، والتمعن في ردّ الشرطة الملتو والموارب، ومن له ذاكرة قوية يعلم عن عدد ممن تورطوا في الجريمة المنظمة وتحولوا إلى مخبرين داخليين، ومؤخرًا تعج القنوات الإسرائيلية عن مسلسلات من هذا القبيل، وواضح أن مثل هذه المسلسلات لا تأتي من فراغ ولا هي نوع من الفنتازيا، وبدراسة بسيطة للسلوك الشرطي في التعامل مع مثل هذه الحالات وتورط عدد منهم مع القتلة والمجرمين، فإننا أمام حقيقة مؤلمة تقول إنَّ القتلة هم أجراء ينفذون أجندات سلطوية، وهو ما يقتضي وقفة مسؤولة من الجميع لتدارك هذا لانحطاط الذي يُعَبِرُ عن عمالة مقننة تذهب بمجتمعنا الى حدِّ الردة والرق المختارين وتهدد نسيجه المجتمعي، ومن تدبَّر نكبة شعبنا الفلسطيني، سيعلم أنّ بعضا من أسبابها يعود إلى تلكم اللحظة التاريخية من الفوضى التي انتشرت بين الناس آنذاك، ولهذا الموضوع حديث خاص قادم.
والتربية الفاشلة تقتلنا..
كيف ولدت الجريمة المنظّمة في داخلنا الفلسطيني، وكيف نمت وتطورت وتشعبت محليا وحتى دوليا، وكيف نجحت في ضمِّ الآلاف من شبابنا إليها ليتحولوا إلى جنود في خدمة أربابها، وما هي الدواعي التي دفعت إلى توسع نطاق الجريمة في الداخل الفلسطيني، ليصل إلى حدّ السيطرة على بعض مقدرات بعض بلداننا وفرض نوع من الخوف والرعب في نفوس العامة.
عندما نسعى لفهم ظاهرة تغلغل الجريمة المنظّمة في بلداننا، ستجد أن هناك الآلاف من فلذات أكبادنا هم جنود ووقود الجريمة المنظمة، من الشباب الغافل اللاهي الذي لا يعلم من شؤون الحياة شيئا، وتجد الآلاف من الأسر في داخلنا الفلسطيني قد تورطت بالديون وكذلك المئات من المقاولين، هذا يجري رغم تحذيرات أهل الإصلاح وفتاوى التحريم التي صدرت عن العلماء والفقهاء في داخلنا الفلسطيني، ممّا يكشف عن هشاشة مجتمعنا ودرجة الانحطاط التي آل إليها، وهو ما يقوي من عضد المنادين بإعادة النظر في البنيتين الاجتماعية والسلوكية وتفكيكها والعودة الى السلوكيات التأسيسية التي تبدأ بأعمال دعوية في السياق الإسلامي والوطني، فإذا كانت رصاصات المؤسسة الإسرائيلية تقتل فلذات أكبادنا، فكذلك تماما بل وأشد تقتلنا التربية الفاشلة التي تفوق خطورة تلكم الرصاصات الموجّهة لخلق الفوضى والرعب بين الناس. وإذا كانت الجريمة تعني في منظور عديد علماء الاجتماع التضاد مع المجتمع عبر إقدام شخص “ما” على ارتكاب جريمته بدوافع فردية تقلق المجتمع وتُدخله في إرباك شديد، فإن هذه الجريمة التي تتعارض والمستويات الأخلاقية السائدة في مجتمعنا، تدفع من يتعرضون للقتل أو يخافونه إلى الاستعداد والمواجهة، ونظرية الاستعداد الحضاري، تتحدث عن سبل مواجهة أرباب الجريمة بوصفهم عملاء ومتعاونين لا مجرد مفسدين، فهؤلاء جمعوا إلى جانب فسادهم وما يترتب عليه من أحكام شرعية ووطنية، جانب العمالة والخيانة، سواء علموا بذلك أو لم يعلموا، وللخيانة أحكامها الخاصة والعامة، سواء في السياقات الشرعية أو السياقات القانونية المدنية أو العرفية المجتمعية.
العديد من علماء اجتماع الجريمة، يرون أن التفكك الاجتماعي هو عامل رئيس في تغلغل الجريمة وتسيّد أربابها المجتمعات، وهذه ظاهرة عادة ما تتعاظم مع أحداث وتحوّلات تشهدها تلكم المجتمعات، وفي ظل فساد الأنظمة وما حدث بعد الربيع العربي أطلّت الجريمة برأسها، وسارعت كالسرطان يغذيها سلطان جائر وبؤر فساد كثيرة، ومجتمعنا في الداخل الفلسطيني ليس عن هذه الظاهرة ببعيد، لذلك أرى أن هذه الظاهرة مهما طال زمنها وتكاليفها ستزول وسيكون زوالها مزلزلًا تماما كزوال السلطان الجائر.
نشهد تحوّلات كبيرة في العقود الأخيرة، سواء على مستويات التغييرات المعيشية أو الضائقة السكنية أو تغلغل وتمدّد الفقر أو كثرة الطلاق والتنافر الأسري، إلى جانب فقداننا المرجعيات على اختلاف مسمياتها وأنواعها (السياسية، الدينية، الحمائلية، العشائرية، المجتمعية ..) ولقد شهدت هذه المتغيرات تغييرات في النسقين الاجتماعي والأخلاقي، كما النسقين التربوي والثقافي، وأصبحت مجتمعاتنا غير محصنة ضد التغير والتبدل، ويشكل التغير القيمي الثقافي في مجتمعاتنا أبرز هذه المعالم، والذي تتمظهر عوارضه على سبيل المثال لا الحصر في عديد أنماط الحياة والسلوك والعادات، بما في ذلك الملبس والمأكل والمشرب والمظهر الخارجي.
إن القيم المادية الوافدة علينا من الآخر الإسرائيلي، أحدثت تغييرات جوهرية في حيواتنا وتركت بصماتها على مسيرات حياتنا وسبل تفكيرنا، ويأخذ التغيير القيمي شكلا سريعا في مجتمعاتنا تآزره المتدخلات المادية وسيطرتها على التفكير والسلوك، وهو ما يجعلنا بين مستجيب ومتوجس ورافض، تتجلى معالمه في واقعنا المُعاش.