جدليات الدين والسياسة، الداخل الفلسطيني كمثال…من التاريخ
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
استقر التشَكُل البنيوي للحضارة الاسلامية في بلاد الشام والقلب منها فلسطين، على الدولة العثمانية التي أولت بلاد الشام عناية خاصة، وبالذات مدينة القدس والساحل، ولا تزال بصمات الدولة العثمانية عبر تاريخها الطويل (400 عام) ماثلة للعيان في فلسطين، ولا تزال بعض القوانين العثمانية معمول بها في بلاد الشام، وحتى في إسرائيل إلى يومنا هذا، وبالتالي شكّلت الحضارة الإسلامية في العصر العثماني، البيان الأخير لفلسطين قبل النكبة.
عشية قيام إسرائيل على أنقاض شعبنا الفلسطيني ونكبته، كانت فلسطين قد تشكّلت هويتها من خلال أربع مجموعات مع تفاوت بَيِنِّ في مسائل التشَكُل والتشكيل: الدولة العثمانية، الاحتلال البريطاني، المجلس الإسلامي الأعلى، الإخوان المسلمون.
في سياق تخلق الهوية الوطنية الفلسطينية، ذهب العديد من المؤرخين إلى أن هذه الهوية تخلّقت في مراحل تاريخية مختلفة، فهناك من ذهب إلى أن بداياتها تعود إلى تمرد الظاهر عمر على الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر(1106 – 1196 هـ/ 1695 – 1775 م) وهناك من اعتبر الصدام مع إبراهيم باشا بداية تخلقات هذه الهوية (حدث الصدام بين الفلاحين وقوات ابراهيم بن محمد علي باشا ونظامه الاستبدادي وكانت بدايات الثورة عام 1843م، وهناك من حدّد الهجرة اليهودية وبدايات الاصطدام مع الحركة الصهيونية مطلعا لبناء هذه الهوية (الهجرة اليهودية الاولى كانت عام 1882) ومنهم من اعتبر وعد بلفور البداية الحقيقية لبناء هذه الهوية (صدر هذا الوعد عام 1917). والحقيقة أن كل ما ذكر كان محطات في بناء هذه الهوية وتهيئة الأرضية لميلاد الفعل السياسي على أرض فلسطين، والذي تجلى عبر وسائل مختلفة مدنية ونضالية وسياسية وعسكرية (انظر، مصطفى كبها، شعب في متاهات الشتات، المجلد السادس الجامعة المفتوحة، 2010).
في العصر العثماني قُسِمَتْ فلسطين الى خمسة سناجق وكان سنجق القدس الأكثر أهمية وعلاقاته كانت مباشرة مع العاصمة والسلطان العثماني، الذي أولى دورًا خاصا لمفتي القدس، ومنحه صلاحيات كبيرة وواسعة، سواء في تعيين القضاة أو مفتي السناجق أو تعيين متوليي الأوقاف، وكانت القدس عمليا عاصمة ولاية فلسطين ومحل سكن الحاكم العثماني، وفيها أجهزة الحكم والسلطة والقضاء بما في ذلك القضاء الشرعي (أنظر بطرس أبو منه: صعود سنجق القدس في نهاية القرن التاسع عشر)، ودراسته: “صعود عائلة الحسيني المرموقة في فلسطين القرن الثامن عشر”.
وتعاظمت مكانة فلسطين والقدس مع الحملة الصليبية الثالثة، التي قادتها بريطانيا وفرنسا، بدعم متواصل من الحركة الصهيونية، ضمن تداخل المصالح والأهداف بين هذه الحركة والقوى الاستعمارية. ومع الاحتلال البريطاني لفلسطين أبقى على المؤسسة الدينية العثمانية كما هي، لتحقيق نوع من الاستقرار السياسي لوجوده على الارض المقدسة، وبذلك تمّ لأول مرة في تاريخ هذه البلاد نوع من العلاقة بين المحتل والمهزوم، ضمن نسيج من العلاقات البينية المؤسسة على مصالح الطرفين، مع التأكيد على الفارق الشاسع بين الطرفين في تحقيق المصالح التي ران كل طرف لتحقيقها، ففي حين ضمن الاحتلال البريطاني الهدوء لتمرير سياساته المكلف بها لتأسيس كيان استعماري اسبارطي صليبي-صهيوني على الأرض الفلسطينية، ضمنت المؤسسة الدينية استمرار وجودها، ومن ثم حفاظها على الموروث الإسلامي الشعبي، ممثلا بالأوقاف والافتاء والمحاكم الشرعية وما تحويه من حركة داخلية كبيرة، لها تأثيراتها الهائلة على الشارع المسلم في تلكم المرحلة من تاريخ فلسطين، وللحيلولة دون تسرب الارض الى المستوطن اليهودي. ولضمان استقرار جدل العلاقة بين الطرفين فقد عمد الاحتلال البريطاني إلى إنشاء المجلس الاسلامي الاعلى كهيئة عليا للمسلمين في فلسطين، حيث خضع لهذا المجلس المحاكم الشرعية وكافة الاوقاف والمدارس والمؤسسات التعليمية الشرعية ودور الايتام، وأشرف المجلس على تعيين الائمة والموظفين والمدرسين، ولعب المجلس دورًا حاسمًا في بناء الهوية الفلسطينية المؤسسة على قضية القدس والمسجد الأقصى، فالحاج أمين لحسيني استغل منصبه كرئيس للمجلس، لتعزيز مكانة المدينة المقدسة والقضية الفلسطينية، ودخل مبكرا في صراع مع الاحتلال، وإن تداخلت العلاقات سلبا وإيجابا مع مختلف القوى والطيف السياسي، وترك الصراع، النشاشيبي- الحسيني، أثره وفقا لما يشير إليه العديد من المؤرخين على ملامح الوجود الفلسطيني السياسي والاجتماعي.
الاخوان مستقبل فلسطين مرهون بتحريرها
في هذا السياق، من المهم أن نعلم أن من قطع على الفلسطينيين صيرورتهم السياسة ليس فقط الاحتلال البريطاني والمليشيات الصهيونية، بل والحكومات العربية، فمنذ أن تدخّل الحكام العربُ في الشأن الفلسطيني وإلى هذه اللحظات، وهم يعملون جاهدين على منع الفلسطينيين من تحقيق كيان سياسي لهم، بل أوقعوا قيادات فلسطينية في شباكهم، ومارست هذه القيادات نفس الدور مع اختلاف في الادوار والمهمات والنتائج، بل كانت منظمة التحرير عبر تاريخها شكلًا من أشكال الوظيفية التي تخدم أولئك الحكام.
بعيدًا عن تأويلات وتحليلات المؤرخين وموقفهم من الحاج أمين الحسيني والصراعات البين فلسطينية ودورها في ضرب المشروع الفلسطيني، يبقى المجلس الاسلامي والحاج أمين الحسيني أصحاب دور مؤسس في إعلاء مكانتي فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، فلسطينيا وعربيا وعالميا، وهو الدور الذي فشل الاحتلال البريطاني في إلغائه ودثره، وكان لعلاقاته المميزة مع الإخوان المسلمين الدور الكبير في رفع القضية الفلسطينية من طورها الفلسطيني- الفلسطيني والعربي “القومي”، إلى البُعد الاسلامي السني- الشيعي، وكان للإخوان المسلمين دور عسكري من بَعدُ في مواجهة المليشيات الصهيونية.
الإخوان المسلمون كمدرسة وتيار، آمنَ أنْ لا مستقبل للفلسطينيين ولا لفلسطين دون تحريرها من الاحتلال البريطاني، ومن دون التخلص من أنظمة عربية قامت تحت مظلة الاحتلال تحتمي به وتمارس كل ما يطلبه منها، ولذلك كانت المقاربات ولا تزال منطقية بين قيام اسرائيل كدولة، وقيام الدول العربية كمنجز بريطاني احتلالي رام قيام اسرائيل والحفاظ على وجودها، بل وجعلها رقما صعبا في منطقة تمَّ تقسيمها تقسيما يحفظ وجود اسرائيل من جهة، ويمزق الفلسطينيين من جهة أخرى. لذلك كان الاهتمام بالشأن السياسي مطلبا أساس في فكر الإخوان مبكرا، بل إن حسن البنا مؤسس الجماعة، ذهب إلى أن الجماعة التي لا تهتم بشأن الامة، سياسيا، تحتاج ابتداء إلى فهم لمعنى الإسلام، وفي هذا يقول: “إنَّ المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا بعيد النظر في شؤون أمته، مهتما بها غيورا عليها، وإنَّ على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية، وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الاسلام”.
وإذا كان الاخوان قد حذّروا مبكرا من الحركة الصهيونية ودورها في إنشاء إسرائيل، فكذلك حذّروا من دور الليبرالية العربية- التي أطلت برأسها مجددا، عبر أنظمة وجمعيات ومؤسسات وشخصيات، وتقود عمليات التعاون الاستراتيجي والامني والعسكري والسياسي مع اسرائيل- من دورهم في تأسيس إسرائيل. وممّا ورد في الادبيات الإخوانية: “…لا شك أن الليبرالية العربية شهدت إنجازين هامين قبل أفولها، خدمت فيهما أسيادها، الاولى: طعنت الخلافة في ظهرها، والثانية: ختمت مسيرتها بإقامة إسرائيل…”.
تدبير السياسة وأمر الدين..
السياسة بجذرها اللغوي “ساس” تحمل معاني الحركة والاحداث والصيرورات التي تحتاج إلى تدبير، ولا يتم تدبير إلا بفكر يشكّل الخلفية والقاعدة التي على أساسها يتم تدبير الشأن السياسي، لذلك كان الاسلام هو المُدَبِرُ للشأن السياسي في المراحل الاولى له، يوم حياته صلى الله عليه وسلم والخلفاء الخمسة (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابنه الحسن)، وقد استفاضت المكتبة الاسلامية وغير الاسلامية في الاسفار التي تحدثت عن تدبير الشأن السياسي في ذلكم العصر برؤية إسلامية، وكما أن السياسة تحتاج إلى تدبير، فكذلك الدين احتاج إلى تدبير بين الخلق على مدار تاريخ المسلمين، وهو ما تجلى تاريخا بالعلماء وأدوارهم العالية الرفيعة، إلى أن زال شمس التدبير السياسي للامة، فظهرت الجماعات الاسلامية لتعبئة هذا الفراغ، خاصة وأنَّ المؤسسات الدينية السنية والشيعية، لم تأخذ دورها الأساس في هذه المهمة، وكانت جماعة الإخوان المسلمين من ضمن تلكم الجماعات التي برزت وعملت على الجمع بين تدبير الشأن السياسي وأمر الدين، وهذا الجمع هو السبب المباشر للحرب التي تشنها أنظمة عربية تواطأت مع الصهيونية والصليبية، لحفظ وجودها ابتداء، وحفظ وجود إسرائيل انتهاء، ولا مكان تحت الشمس لهذه الأنظمة مهما كانت لافتاتها إن لم تعلن شهادة التزام ووفاء للشرط الثاني.
تاريخيا، انتشرت جماعة الاخوان المسلمين على أرض فلسطين وكان لها شعبُّ في كافة الحواضر الفلسطينية وحتى القرى والنجوع، كما تشير مذكرات وتاريخ الحركة ووثائقها، فكان لها شُعبُّ في حيفا ويافا وبيسان والقدس وغزة وجنين على سبيل المثال لا الحصر، واعتبرت الجماعة مبكرا إنشاء شُعب لها في فلسطين من تدبير السياسة والدين، ليس باعتبار الإحيائية الإسلامية فحسب، بل وفي السياق الفلسطيني، باعتبار التحرير والتحرر من الاحتلال البريطاني، حيث وصلت الجماعة آنذاك إلى يقين بأن دور بريطانيا ومهمتها الاساس إقامة كيان لليهود على حساب سكان البلاد المسلمين أساسا، وهذا ما نتدبره من قراءات الأدبيات الإخوانية المبكرة التي ناقشت وتناولت تلكم الحقبة من تاريخ فلسطين (أنظر: حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين، ندوة عالمية ،2012، المجلد الثاني ص175-203) وإذا كانت السياسة من حيث هي تدبير ليست ببعيدة عن فكر وعقل الاخوان المسلمين ومن انتمى إليهم، فكرا وتنظيما، فإن شرط الاتباع الاخواني منوط بالتوفيق بين تدبير السياسة وأمر الدين، وهو ما استوجب عبر تاريخ هذه الجماعة اجتهادات داخلية، أحدثت في أحايين كثيرة انشقاقات داخلية أو/ و استقالات لشخصيات عالمة ونافذة كبيرة.
كانت وستبقى في الرؤية الاسلامية السياسة وتدابيرها وسيلة للأمر الديني، تهتدي بهديه مع التأكيد على سعة هذا الدين في تفهم مساحات الفعل السياسي، شريطة أن لا يخرج عن محددات الامر الديني الثلاثة: الحق والعدل والمصلحة، وهذه الامور الدينية الثلاثة كتب فيها الاصوليون والفقهاء، وحتى تطرق لها المؤرخون ممن كتب التاريخ الاجتماعي والسياسي في بعض مراحل تاريخ المسلمين وتعاطيهم مع الإسلام، وأخال أن الجماعات الاسلامية منذ سقوط الدولة العثمانية عادوا الى هذه الشروط لتبيان العلاقة بين الحكم والدين والمجتمع، وهو ما نجم عنه مواقف متباينة من الحكام والحكومات، تراوحت بين التفسيق والتكفير والخروج عليهم، وقد حدث الخلل تاريخيا يوم غلّب ولاة أمور المسلمين التدبير السياسي على الأمر الديني، مع تأكيد كاتب هذه السطور أنَّ ثمة تسويات “صامتة” تمت بين العلماء والحكام تاريخيا، أزعم فيها أن العلماء تركوا السياسة وشؤونها للحكام، فيما ترك الحكام لهم تدبير شؤون العامة، ولتحقيق هذه المسألة توسعت الاوقاف بشكل كبير، لتحقيق التدبير الديني للعلماء بشأن الناس بعيدًا عن سطوة الحكام.