معركة الوعي (46).. ظاهرة منصور عباس وتداعيات المشهد
حامد اغبارية
هل السلوك السياسي للدكتور منصور عباس يعتبرُ ظاهرة غير مسبوقة في فضاء العمل السياسي، بصفته يمثل تيارا إسلاميا يشارك في عضوية الكنيست، تلك المؤسسة الصهيونية التي تمثل أهم الرموز السيادية للمؤسسة الإسرائيلية ورأس حربة المشروع الصهيوني؟ هل هو حالة فريدة وخاصة، أم هو نموذج ونسخة (إسرائيلية) متكررة لإسلاميين خاضوا التجربة في أماكن أخرى؟
هذا السؤال، الذي يرى كثيرون أنه ربما يكون لغزا، يتردد مؤخرا في الشارع الفلسطيني في الداخل عامة، وفي أوساط العاملين في الحقل الإسلامي بشكل خاص، وهو سؤال يحمل في ثناياه أكثر من مجرد التعبير عن القلق من السلوك السياسي للرجل، في أعقاب التناقض الفج في تصريحاته حول موقفه من قضية الشواذ، تلك التصريحات التي أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وأثارت نقاشات حادة حتى على مستوى قيادات ومثقفين وإعلاميين.
هناك مجموعة من الحقائق التي لا بد من التعرف عليها حتى نفهم ذلك السلوك بشكل صحيح، في نظري على الأقل.
فتصريحات د. عباس بخصوص الموقف من قضية الشاذين جنسيا ليست الأولى التي تثير هذا النقاش وتطرح، بقوّة، تلك التساؤلات التي يعبر أكثرها عن الاستهجان والرفض ووضع علامات سؤال حول أسلوب الرجل وأهدافه. فقد سبق له أن كان له موقف مستهجن من الكثيرين بخصوص “تسليم الهوية”، ثم اعتباره الحاخام اليهودي ملكيئور نموذجا يُحتذى، وقبل ذلك استغلاله لمحاضرة له في المسجد الأقصى المبارك للدعوة للتصويت للقائمة المشتركة، وهو الأمر الذي أثار استياء المسلمين، باعتباره استغل المكان- المستهدف من الاحتلال- لأهداف انتخابية خالصة تتعلق بمؤسسة تشكل رمزا احتلاليا، وهو الكنيست، هذا في الوقت الذي حرص فيه الإسلاميون فيما مضى، حتى على تجنيب المساجد في البلاد الدعاية الانتخابية للسلطات المحلية! ثم أهم ما في هذه المواقف؛ وهو علاقته القريبة من نتنياهو والليكود وما تبع ذلك من تداعيات أثارت أزمة داخل القائمة المشتركة وما تزال تهدد مستقبلها، وبين هذا كله العديد من المواقف والتصريحات التي وضعت الرجل في دائرة الانتقاد، لا لشخصه، بل كونه يمثل تيارا إسلاميا كان جمهوره يتوقع منه العكس تماما!!
والسؤال هو: هل هذا السلوك هو استرضاء للجهات ذات التأثير (نتنياهو والليكود في هذه الحالة) طمعا في تحقيق “إنجازات”، أم هي قناعات نابعة من المحددات التي أعلن عنها الرجل قبل ذلك من خلال حديثه عن “تجديد الخطاب”؟ وهل هو سلوك شخصي بمعزل عن قناعات التنظيم الذي أرسله إلى الكنيست، أم أنه عمليا ينفّذ سياسة ذلك التنظيم (الحركة الإسلامية- الجنوبية)؟
لا أشك للحظة أن سلوك الدكتور منصور عباس ليس سلوكا شخصيا، بل هو تعبير عن المنهج الذي اختارت الحركة الجنوبية السير فيه. فمن اللحظة الأولى التي قررت فيها خوض انتخابات الكنيست عام 1996 كانت على علم تام ووعي كامل أن لهذه الخطوة أثمانا باهظة لا بد من أن تدفعها. ونحن نعرف أن أي تنظيم له مؤسسات هرمية وبرنامج يسير جميع أبنائه على ضوئه، له من الضوابط الصارمة التي لا تسمح لأي فرد بالخروج عن تلك الضوابط (سواء كانت سياسية أو شرعية أو تنظيمية أو سلوكية أو أخلاقية الخ). وإذا حدث (وقد حدث) وخرج أحد أبناء التنظيم عن تلك الضوابط فإنه معرّض للمحاسبة. لذلك فإن مما نراه حتى الآن فإن د. عباس يعبر عن التنظيم وليس عن موقفه الشخصي وقناعاته الخاصة. وقد أكد التنظيم هذا الأمر في أكثر من بيان ومقال وتدوينة وتصريح ومقابلة دافع فيها عن مواقف الرجل وحاول تبريرها.
بل أكثر من ذلك، فقد ذهب التنظيم أبعد من ذلك سابقا وحاليا، من خلال فتاوى وتخريجات شرعية لتبرير مواقف التنظيم ومواقف الرجل. وقد وجدنا ذلك على سبيل المثال في مقابلة مطولة مع الشيخ رائد بدير سوية مع الحاخام اليهودي ملكيئور، برر من خلالها الشيخ كل تلك المواقف والسياسات بتخريجات فقهية لا تزال تثير الكثير من النقاش في أوساط أهل الفتوى والفقه والشريعة.
وقبل ذلك رضي التنظيم أن يشارك فيما يسمى “حوار الأديان” في إسبانيا عام 2018، ووقّع على بيانه الختامي الذي أكد أن الصراع في فلسطين ليس دينيا وإنما هو صراع سياسي. وهذا يقول الكثير ويشرح مواقف التنظيم التي يعبر عنها د. عباس من خلال سلوكه السياسي هذا. شارك التنظيم في ذلك المؤتمر الذي نظّمته الخارجية الإسبانية رغم وعيه التام أنه ليس هناك في الحقيقة شيء اسمه “حوار أديان” لأنه ليست هناك “أديان” متعددة، لأن دين الله واحد لا يتغير ولا يتبدل، وهو الإسلام.
والعجيب أنك يمكن أن تكتشف بعض ما يجري في الكواليس، حين تسمع –على سبيل المثال- رامي الحمد الله؛ رئيس وزراء حكومة مقاطعة رام الله آنذاك من أن إسبانيا تساهم في دعم السلطة ماليا واقتصاديا وفي البنى التحتية. فهل كانت تلك المساعدات هي الثمن الذي قبضته السلطة مقابل المشاركة في ذلك الحوار (الذي لم يثمر سوى الخيبة والفشل، لأنه أصلا حوار طرشان مبني على كذبة كبيرة وعلى أوهام، من إبداعات المشروع الصهيوني)؟
ولماذا هذا السؤال عن السلطة ونحن نتحدث عن منصور عباس والتنظيم الذي يمثله؟ ذلك لكي نسأل السؤال التالي وهو ما يعنينا هنا: هل السلوك السياسي للدكتور عباس وزملائه في المشتركة من الحركة الجنوبية هو الثمن الذي يقدمونه من أجل الحصول على بعض الفتات من حكومة نتنياهو؟
كل الأسئلة مشروعة، وكل علامات الاستغراب مطروحة، وكل إشارات الاستهجان مباحة في هذا المشهد العبثي.
وعودة إلى السؤال الأول: هل د. عباس ظاهرة فريدة من نوعها، أم نسخة متكررة من إسلاميين خاضوا التجربة في بلاد عربية؟
الجواب يلزمه الحذر الشديد، لأن المشهدين مختلفان هنا وهناك، بداية من مسألة المشاركة أساسا في البرلمانات غير الإسلامية، ثم ما تبع ذلك من آثار التجربة ونتائجها. ومع الحذر الشديد، أجد أن السلوك السياسي للدكتور عباس ليس بدعا من السلوكيات، مع الفوارق في التفاصيل والدوافع، لكنها مع ذلك كلها وجهت ضربة قاسية للمشروع الإسلامي وأربكته، بل وفي بعض المواضع والمواقع جعلته في حيص بيص، كما حدث في الأردن، وكما يحدث في تونس منذ 2011، وكما سمعنا على لسان رئيس الوزراء المغربي (العثماني) هذه الأيام الذي راح يبرر ويدافع عن سلوك مليكه في التطبيع مع تل أبيب، بسطحية غير متوقعة من شخص يُفترض أنه تربى على عمق الفهم والوعي والإدراك.
هكذا نجد أنفسنا أمام توجهين داخل التيار الإسلامي الذي ينطلق من ذات المنهج؛ أحدهما ما يزال يحافظ على الثوابت وعلى الأصول ويقدم من أجل ذلك أثمانا باهظة بأشكال متعددة، ما بين حظر وسجن وملاحقة ونفي وشيطنة وقتل وإقصاء وتضييق، فهذا آثر الحفاظ على سلامة المنهج بوعي تام للنتائج والأثمان، والآخر اختار منهج السلامة والنجاة والدِّعة والطمأنينة، حتى لو كان الثمن هو هدم المعبد، ناهيك عن تقديم كل هذه التنازلات والسير في طريقٍ نعلمُ جميعا نهايته التي توصل إلى حافة الهاوية.
وإن قضية “منهج السلامة” الذي سار فيه تنظيم الجنوبية ليس جديدا، ولا يمكن لأحد نفيه أو تجميله بتسمية أخرى أكثر لطفا. فهو مبدأ قديم خطّه الشيخ عبدالله نمر درويش- رحمه الله تعالى- منذ مطلع التسعينات. وكان لي معه حوار صحافي في تلك الفترة، ناقشتُه خلالها حول المواقف، فقال إنه يريد أن “يسيّج” حول الحركة الإسلامية لحمايتها. وكرر هذه المقولة على مسامعي في مكالمة هاتفية طويلة بيننا عام 1995، بعد أن وجهتُ له مذكرة من عشرات الصفحات حول الموقف من انتخابات الكنيست، ذلك الموقف الذي شق الحركة، بحد السكين، إلى نصفين.
واليوم، بعد كل هذه السنوات، وما نتابعه من سلوك سياسي للتنظيم، هل نجح “السياج” الذي ضربه الشيخ حولها في الحفاظ على الحركة؟ وهل ما نشاهده اليوم هو من ثمار ذلك “السياج”؟ وما معنى الحفاظ على التنظيم؟ هل هو حفاظ على الإطار، أم حفاظ على المشروع والمضامين والثوابت؟
ما أفهمه أن “التسييج” يحتاج دائما إلى “تسييجات” جديدة مع مرور الوقت، بعد تآكل السياج الأول. وكلما أوغلتَ في عملية التسييج، كلما ضاقت قطعة الأرض التي تقف عليها، وعندها إما أن تمزق السياج وتنقذ نفسك وأرضك التي تقف عليها، وإما أن ترضى بـ “الواقع” الجديد، وهو واقع دائم التجدد يفرض عليك في كل مرة ضرب سياج جديد، إلى أن تكتشف فجأة أنك تقف على رؤوس أصابعك لضيق المكان، وقد التفّ حبل السياج حول عنقك.