خطاب الخدمات الفلسطيني في خدمة الخطاب الاسرائيلي!
د.ابراهيم خطيب – باحث سياسي ومحاضر جامعي
ضجت الساحة السياسية في الداخل الفلسطيني في الأسبوعين الأخيرين بالنقاش حول خطوات تمت من قبل الأحزاب العربية تتمركز حول علاقتها مع المحاور الصهيونية الاسرائيلية بشقي الليكود وكحول لافان ونظرتها للتعاون معها، وهذا النقاش والوضع الذي وصلنا له، وحالة التيه السياسي، يحتّم علينا إعادة تقييم ومراجعة تجربة العمل السياسي الفلسطيني في الداخل وخصوصاً البرلماني منه. إن محاولة حمل العصا من الوسط التي حاولت الأحزاب العربية القيام بها لسنوات يبدو أنها لم تفلح، وأقصد هنا محاولة الحديث عن البعد الوطني وبنفس الوقت الإندماج في السيرورة الإسرائيلية السياسية وفق قواعد لعبتها وإيقاعها من دون ضبط قواعد لعبة وإيقاع يتناسب مع هويتنا وذواتنا وطبيعة الصراع مع المؤسسة الاسرائيلية التي شردّت أهلنا وسلبت أرضنا، وذلك لإنعدام برنامج ورؤية شاملة لمستقبلنا كفلسطينيين في الداخل.
راوحت الأحزاب مكانها، فلا هي فلحت في تعزيز الخطاب الوطني بخطة ورؤية عملياتية تؤسس له وتجعل الناس تبقى من حوله، مما جعل بعضاً من الناس تبتعد عن هذا التوجه، ولا استطاعت الانسجام مع رؤية وهوية مجتمعنا المحافظة، فعاندته في نقاط عدة قللت من ثقة الناس بها (هذه المواقف منبثقة من رؤية هذه الأحزاب لأيدولوجيتها وفكرها السياسي وبالمناسبة هذا “حقها” وفق الرؤية الديموقراطية ولكن ليس بالضرورة أن هذا الفكر يمثّل مجتمعنا ويمكن التحدث بإسم مجتمعنا من خلاله).
بالعودة لرؤية الأحزاب وعملها، فبعد تراجع الخطاب القومي الوطني، ولجم الخطاب الإسلامي (من خلال حظر الإسلامية او بعوامل داخلية) وتشتت الفكر الشيوعي وعدم ملائمته لخطاب وفكر شعبنا المعاصر.. برز خطاب اخر، وهو الخدماتي (والذي سيكون، لذاته، خطاباً وسيطاً للإندماج ضمن مفهوم الأسرلة ويخدم المشروع والخطاب الاسرائيلي الساعي لتدجين فلسطيني الداخل)، الذي يقول ببساطة دعونا من القضايا الوجودية الكبرى وسياق صراعنا مع المؤسسة الاسرائيلية وطبيعة وجودنا في هذه البلاد والتي منها ينبثق سُبل عيشنا والتعامل مع أدوات العيش هذه، لنقفز لسؤال كيف نحصّل بعض الأمور المعيشية لنضمن عيشاً تحت هذا الواقع وليس بتحدٍ له، هكذا توجه سيجر بعضنا ليتخلى عن هويته وقضيته لتصبح مقولة “ومالها إسرائيل” ضمن النقاش المشروع، ولاحقاً مطلب الدخول في الحكومة او التصويت لأحزاب صهيونية ضمن سؤال من يجلب لنا مكاسب معيشية أكثر! ولنصبح كحزب شاس او يهدوت هتوراة او حزب ليبرمان نسعى لمصالح فئوية مطلبية لجمهور مصوتينا، لنبدل من صراعنا، من صراعٍ على وطن وهوية لصراع حول مطالب معيشية هنا وهناك، وكل ذلك مع إدراكنا أن أحد الأسباب المركزية لعدم الحصول على هذه المطالب هو هذه المؤسسة التي هجّرت وقتلت شعبنا، لنصارع على الفرع بدلاً من الأصل!
يا سادة نحن ننتقل لمرحلة الإبتعاد عن القيم والمبادئ، إلى العالم المرتبط إرتباطاً مباشراً بالمصالح والحسابات المادية والإقتصادية وإلى سياسة المقايضة، وبالمناسبة يبدو أن كل هذا يدور ضمن حلقات التطبيع فكانت الإمارات والبحرين دولياً، وها هي السلطة الفلسطينية وقيادتها على الصعيد الفلسطيني تسير بمشوار التطبيع والتفريط والمقايضة، لنصل لواقعنا الفلسطيني في الداخل ومحاولة تطبيعنا وتطبّعنا مع واقع اسرائيل لنرضى به ونلتفت فقط لقضايا مطلبية محلية هنا وهناك.
أٌدرك أن البعض يمكن أن يقول أن المزاج الشعبي بعيد عن هذا النقاش، وبات ما يهمه تلك القضايا المعيشية والحياتية، والنواب العرب في الكنيست الاسرائيلي، يسعون للعمل على تحصيل هذه المطالب (وبالمناسبة خطوة عضو الكنيست د. منصور عباس هي خطوة “براجماتية” ليبقى ذو صلة بسؤال الإنجاز والتأثير وفي خطوات تحقيق المطالب المعيشية، مدركاً أنه لن يكون بالامكان تحقيقها من دون تعاون مع السلطة، وقد قام سابقوه العرب بذلك وما يزالون.. ولكن ما ميّز عباس هو “جرؤته” في هذا السياق)، والمشكلة ليست فقط في هذه الجرأة بل المشكلة أعمق من ذلك وترتبط بموضعة هذه المطالب في صلب العمل السياسي العربي في الداخل وجعلها جل الإهتمام لكسب الناخبين ومحاولة بيع وهم إنجازات لهم. كما ذكرت أًدرك أن هذه المطالب عند عدد من الناس تسير بهذا الاتجاه، وبالتالي محاولة تلبية رغبات الناس من قبل النواب، لإعادة انتخابهم. ولكن دور القيادة هو توجيه الناس ووضع سلم أولويات حقيقي وتحديد البوصلة بعلاقة متبادلة بين الناس والقيادة. بنفس الوقت يمكن فهم توجه الناس لهذه المطالب الحياتية، وأعزوه لعدة عوامل:
1. فشل القيادات بطرح رؤية وبرنامج عمل سياسي
2. تراجع العمل الجماهيري وضعفه
3. تراجع القضية الفلسطينية
4. حالة الهوان العربي
5. ثقل المشاكل الإجتماعية والحياتية
6. العولمة وما نتج عنها من التراجع الهوياتي والقيمي والاهتمام بالمعيشة والمشاكل الإقتصادية.
كل هذه العوامل تؤثر، ولكن يجب محاولة الاشتباك معها وتحديها وليس الخنوع لها، فمشروع الخدمات هذا طريقه تبدأ بمحاولة توفير بعض الخدمات هنا وهناك ولكن انزلاقاته لن تتوقف إلّا بانصهار في المجتمع الاسرائيلي ضمن مقولات البراجماتية وتحصيل الحقوق والتأثير، وكل هذا يشكل خطراً كبيراً على هوية شعبنا وقضيته، لنصبح من أصحاب وطن لأقلية كأنها مهاجرة تسعى لبعض الحقوق ضمن الحيز العام الذي توفّره الدولة المستضيفة. ويبدو أن أزمة الأحزاب العربية في الإجابة عن سؤال هل نحن فلسطينيون أجبرتتا الظروف على العيش تحت الحكم الاسرائيلي، أم اسرائيليون نملك خلفية فلسطينية.. لم تنجح الأحزاب في الجمع بينهما.. وتسعى الآن لحسم توجهها..! كما أنها لم تحسم أمرها عملياتيا وتطبيقاً حول سؤال هل حقوقنا مجتزأة من مواطنة موهومة؟ أم من حق أصحاب الأرض؟
كل هذا لا يعني أننا يجب أن نقف جانباً مرددين الخطاب الوطني والديني والقيمي بمعزل عن حياة الناس، ولكن يجب صياغة مطالب الناس ضمن المشروع الوطني الكبير وضمن تحقيقه، كما أن السعي لسد هموم الناس يكون من خلال بناء مجتمع متماسك وبناء مؤسسات قوية ذات رؤية وتساهم في تحسين واقع مجتمعها. والحل يكمن بالتالي: 1. صياغة مشروع وطني فلسطيني يجيب بكل صراحة عن ماذا نريد مرحلياً وعلى المدى البعيد، والتفكير بهذه المطالب بشكل منفتح وجريء ضمن احتمالات مختلفة تصل للحديث عن الحكم الذاتي او الحكم الذاتي الثقافي أو الاعتراف بنا كأقلية أصلانية وما ينبع من حقوق وفق ذلك (طبعاً بما لا يتعارض مع المشروع الوطني الفلسطيني وحل القضية الفلسطينية)، فطبيعة المؤسسة الإسرائيلية لا تتوافق مع انتمائنا وهويتنا وهنا يجب الدعوة لحوار داخلي مستفيض ومؤتمر انقاذ وطني 2. صياغة برنامج عمل لتحقيق رؤيتنا هذه ضمن أجندة عمل والنضال بشكل فعلي من أجل تحقيق هذه الرؤية 3. تعبئة جماهيرية تلامس البعد الوطني والديني والانساني المتصل بالقضية الفلسطينية وعدالتها وانتمائنا وهويتنا 4. بناء المؤسسات الوطنية في الداخل بشكل ديموقراطي 5. التلاحم بين القيادات السياسية والمجتمعية والاقتصادية لمجتمعنا ضمن هذا المشروع ومحاولة سد الثغرات التي يعاني منها أبناء شعبنا في الداخل. كل هذه الأفكار يمكن تحقيقها ضمن نضال جماهيري سلمي ومثابر مُشتق من خطاب القيم الانسانية والمواثيق الدولية ذات الصلة، والحق الفلسطيني والعربي والاسلامي لنا في هذه البلاد، ويجب أن نتذكر أن الحق لا يعطى بل ينتزع، وتحقيق ما نصبو إليه لن يكون إلّا بنضال طويل.. ولكن مصيره التحقيق لطبيعة عدالة قضيتنا، فلا تؤثر علينا حالة الهوان العربي لنتراجع ونفرّط.. فهذه مرحلة وتمر، وديدن الشعوب هو المثابرة والصبر والعمل الجاد لتغيير واقعها وأن لا تقع وتخضع في لحظات الضعف، لنخرج من التيه منتصرين!