معركة الوعي (43).. مستقبل مجتمعنا قبل مستقبل المشتركة
حامد اغبارية
هل ستبقى القائمة المشتركة كما هي، رغم كل ما يجري داخلها وحولها مؤخرا؟ أم أنها ستتفكك ويذهب كل فريق ” فرِحاً بإنجازاته” ليستجدي بها أصوات الناخبين في الانتخابات القادمة، التي يبدو أنها قريبة جدا؟ ما هو مستقبل المشتركة ومستقبل الأحزاب التي تشكلها؟
الإجابات على هذه الأسئلة لا تهمّني شخصيا، وأظن أنها لا تهمّ الشريحة الأوسع والأكبر من مجتمعنا في الداخل الفلسطيني. ذلك أن الهمّ الأكبر الذي يجب أن يقضَّ مضاجعنا جميعا هو مستقبل مجتمعنا، ومستقبل تلك الأجيال الشابة التي دخلت دائرة الوعي وسط تفاعلات سياسية أربكت تفكيرها وجعلتها كالريشة في مهب الريح، لا يقر لها قرار ولا تدري كيف تختار وماذا تختار، بعد أن أضاع الانتفاعيون اتجاه بوصلة المجتمع، وساقته إلى منطقة ليست هي المنطقة التي يجب أن يكون فيها! وكل هذا بفضل الفشل الذريع الذي هو الشيء الوحيد الذي أنجزته المشتركة على وجه الخصوص، وبسبب تراجع الفعل السياسي في المشهد العام، حتى أصبح الأمر وكأن ممارسة العمل السياسي بات مقصورا على المشتركة، ودائرتُه الوحيدة هي الكنيست الصهيوني. وهذا من أخطر ما أصاب مجتمع الداخل في السنوات العشر الأخيرة على الأقل.
نعم، القائمة المشتركة لها نصيب الأسد في حَرْف العربة عن طريقها الصحيح، يوم ساهمت في إدخال الشارع في أضيق حيّز يمكن أن يمارس فيه العمل السياسي، حتى بات كثيرون يظنون أنه لا حاضر ولا مستقبل ولا إنجازات ولا إحقاق حقوق إلا من خلا ل هذا الحيّز، بعد أن مورست عليهم نظرية “صناعة ذاكرة السمك”، تلك الذاكرة القصيرة جدا التي لا تستوعب إلا الحدث الأخير، ولا تتعامل إلا مع الطُعم الذي يُلقى إليها، وهي لا تدري أن ذلك الطعم إنما يقربها من النهاية.
والحقيقة التي لا بدّ أن يفهمها مجتمعنا كله، بلا استثناء، أن القائمة المشتركة ساهمت في تدمير العمل السياسي من اللحظة الأولى التي تشكلت فيها (عام 2015)، لأنه كان واضحا، حتى لأولئك الذين يدعمونها ويصوتون لها، أن السبب الوحيد الذي وقف خلف تشكيلها هو رفع نسبة الحسم، وأن الوهم الذي سوّقته منذ ذلك الحين تقطف هي ويقطف مجتمعنا كله ثماره الآن، بعد أن باتت الصورة أشدّ وضوحا وإيلاما، جراء السلوك السياسي للقائمة بشكل عام، ولأطراف فيها بشكل خاص، سواء في التوصية على غانتس، أو دعم الشواذ، أو وهْم تجميد قانون كامينتس، أو تقارب جزء من القائمة مع الليكود ونتنياهو وغير ذلك الكثير، علما أن التقارب مع التيارات الصهيونية؛ سواء كانت من اليمين أو من اليسار نتيجته واحدة، وآثاره سيئة بالنسبة لمجتمعنا، وهذا غاية ما تحلم به المؤسسة الإسرائيلية، ناهيك عن الصراعات الداخلية، التي أصبحت علنية، والتي يخجل منها سياسيون مبتدئون؛ يخجلون من الأداء ومن النتائج الكارثية!!
وسواء بقيت المشتركة إلى الانتخابات القادمة أم تفككت، أم تشكلت منها قوائم مشتركة جديدة (وهو على الغالب ما أتوقع حدوثه)، فإن مستقبلها سيبقى على كفّ عفريت. ولكن السؤال هو: ماذا عن مستقبل مجتمعنا؟ هل سيكون نسخة عن مستقبل المشتركة؟
أشرت في مقالات سابقة إلى أن المشتركة بذلت كل جهد لتقدم نفسها بديلا وحيدا عن السقف الجامع (لجنة المتابعة العليا)، ساعدها في ذلك الإعلام الصهيوني والعربي المحلي، الذي روّج للفكرة بطرق مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى، كما ساهم في إيهام الجمهور بأن للمشتركة إنجازات حقيقية، وأنه لا مستقبل سياسي لهذا الجمهور إلا بوجود المشتركة. وبذلك تكون قد ارتُكبت جريمة بحق هذا الجمهور الذي يطمح إلى أفضل من هذا بكثير، ويسعى إلى الانعتاق من قيود الدائرة الصهيونية التي يمارس داخلها العمل السياسي.
إن مستقبل مجتمعنا، الذي نحن قلقون أشد القلق بشأنه، ليس في يد المشتركة، ويجب ألا يكون في يد المشتركة ولا في يد الإعلام المضلِّل الذي أصبح يمثل البوق الذي تنفث من خلاله المشتركة بطولاتها الدونكيشوتية. هذا المستقبل يجب أن يكون في يد أبناء شعبنا، بقيادات صادقة لا تكذب عليه ولا تخدعه ولا تضلله ولا تبيعه الأوهام من أجل تحقيق مصالح فئوية وحزبية ضيقة جدا، مقصورة على الإدلاء بالصوت يوم الانتخابات. هذه القيادات منوط بها الآن أن تسارع إلى تحرك عملي جماهيري يحرّك المياه الراكدة، ويثبت أن العمل السياسي أوسع بكثير من الكنيست، بل ويثبت للجمهور أن قضية الكنيست أصبحت عبئا عليه لا بد من طرحه عن كاهله، والتخلص منه في أسرع وقت، مع طرح بديل أو بدائل حقيقية فاعلة تقدم إنجازات ملموسة، مع ضرورة إدراك الجمهور أن الإنجازات ليست محصورة بالحقوق اليومية المدنية، بل إن القضية أكبر من ذلك بكثير وأخطر من ذلك بكثير.
لقد سعت المؤسسة الإسرائيلية منذ نشأتها، ولغاية هذه اللحظة، إلى غسل أدمغتنا، من أجل إقناع الجمهور الفلسطيني في الداخل بأن المشكلة الوحيدة التي يجب أن تشغل باله هي تحصيل الحقوق اليومية، وأنه لا علاقة له بالقضية الفلسطينية ولا بالملفات الكبرى مثل قضية القدس والأقصى ومستقبل الصراع على فلسطين. ولذلك يجب أن نضع “اعترافات” القيادات الإسرائيلية بوجود ظلم وإجحاف وهضم لحقوقنا اليومية في هذا السياق فقط. فهي تستطيع- بل تستمريء- أن تتحمل مناكفة جمهور عريض كجمهور مجتمع الداخل الفلسطيني للسلطة حول قضايا السلطات المحلية ومسطحاتها وأراضي البناء وهدم البيوت والعنف والتعليم وغير ذلك، لكنها لا تريد لهذا الجمهور أن يتفاعل مع قضايا شعبه التي هي أهمّ مليون مرة من الحقوق اليومية التي هي أصلا تحصيل حاصل. وللأسف الشديد ساهمت الأحزاب المشاركة في الكنيست، سواء قبل المشتركة أو في عصر المشتركة، في نشر هذه الثقافة العرجاء الخطيرة، التي تحاول أن تقطع علاقتنا بامتدادنا الفلسطيني وامتدادنا العربي وامتدادنا الإسلامي، مع ترويج فهم أعوج – غير مباشر- بأن تاريخنا بدأ فقط عام 1948، وأنه لا علاقة لنا بما حدث في تلك السنة وما قبلها سوى علاقة رمزية، وفي التالي فإننا مجرد أقلية كسائر الأقليات التي تعاني من ظلم الأغلبية وهضم الحقوق المدنية واليومية ومجرد ممارسات عنصرية عرقية، مؤسساتية أو شعبية، في أي مكان في العالم، وهذا أخطر ما تمكنت المؤسسة الإسرائيلية، وبمساهمة من بعضنا، من تحقيقه!
تدرك المؤسسة الإسرائيلية، أكثر مما يدركه بعض هواة السياسة عندنا، ومحترفي الأسرلة والاندماج ومسح تاريخ كامل ومسخِه، أن قضيتنا أكبر بكثير من كوننا مجرد مواطنين مهضومي الحقوق المتعلقة بالمواطنة، ولذلك بذلت الجهد والمال والوقت، وأجرت الدراسات والأبحاث الاستراتيجية التي بناء عليها وضعت الخطط ونفذتها بحقنا، من أجل إبقائنا في إطار هذه الدائرة. فهل ندرك نحن أن علينا أن نغير هذا الواقع من خلال تغيير المفاهيم والفهم والمدارك والوعي، بحيث نعيد الأمور في إطارها الصحيح؟ وإذا أدركنا ذلك، هل نملك الإرادة لتحقيقه؟ وإذا ملكنا الإرادة فما الذي يحول بيننا وبين تحقيقه سوى اتخاذ القرار وتجاوز كلّ المعطّلين الذين اختاروا طريق السلامة على حساب سلامة الطريق؟