معركة الوعي (40): في مسألة “الصف الوطني” و “صفّ الحكي”
حامد اغبارية
أثار الموقف الذي سجله فضيلة الشيخ كمال خطيب على صفحته حول تصريحات الأسير ماهر الأخرس بخصوص سوريا ونظام آل الأسد، لغطا كبيرا، وتجاذبات وصلت حدّ توجيه السباب والشتائم للشيخ من جهات وأطراف تدعم جرائم النظام السوري بحق الشعب السوري دون تحفظ.
وكان الذين حاولوا من هؤلاء القوم أن يضبطوا كلامهم، بحيث لا يتردى إلى مستوى الشخصنة، كما فعل كثيرون من القطيع، قد وجهوا الانتقاد للشيخ بحجة أن موقفه إثارة للفتنة وشق للصف الوطني!! هذا علما أن الشيخ كان شديد الأدب في رسالته التي وجهها إلى الأسير الأخرس. ولكن الذي أغاظ هؤلاء حقيقة ليس لأن القضية تتعلق بأسير مضرب عن الطعام ووضعُهُ حرج كما حاولوا تصوير المسألة، بل لأن القضية تتعلق بسوريا والموقف منها.
وقد بات من الضروري والواجب أن نتحدث بصراحة متناهية عن قضية “الصف الوطني” وقضية “الفتنة” اللتين يخفي هؤلاء خلفها حقيقة مواقفهم من أي تصريح أو رأي يخالف رأيهم ويحرك المياه الراكدة، التي يبذلون كل جهد لإبقائها راكدة، لأن مصلحتهم الفئوية تقتضي ذلك. خاصة وأن موضوع “شق الصف الوطني” و “إثارة الفتنة” يتكرر في الفترة الأخيرة فقط على خلفية مواقف تصدر عن قادة العمل الإسلامي بشكل عيني، وتحديدا ما يصدر عن الشيخ كمال خطيب!!
فهي ليست المرة الأولى التي يدلي فيها الشيخ برأيه، الذي لا يعبر به عن موقفه الشخصي فحسب، وإنما عن موقف شريحة واسعة من أبناء مجتمع الداخل الفلسطيني، بل والشعب الفلسطيني والأمة كلّها، في القضايا المفصلية، مثل قضية الكنيست والموقف من سياسات سلطة رام الله وقضية الثورة السورية وثورات الربيع العربي بشكل عام وغير ذلك من القضايا. وفي كل مرة يخرج هؤلاء بسمفونية الفتنة والحفاظ على الصف الوطني ووحدة الموقف!!
والسؤال هو: أين هو الصف الوطني الذي يتحدثون عنه؟
تعالوْا لننظر القضايا التي يُفترض أنها تعكس حالة “الصف الوطني”، ولنحاول أن نستقرئ منها إذا ما كان هناك صف وطني حقيقي، أم أن المسألة مجرد شمّاعة يعلق عليها البعض رفضهم سماع أي رأي يخالف ما يعتقدون أنه الموقف الذي يجب أن يمثل الجميع بلا استثناء، مع التأكيد أن هؤلاء في غالبيتهم يصرّحون أنهم ليسوا ضد الرأي الآخر، بينما واقعهم يقول غير ذلك، متوهمين ومُوهمين الجمهور أن موقفهم فقط هو الذي يجب أن يمثل “الصف الوطني”. وفي أحسن الأحوال تجد بينهم من يقول: من حقك التعبير عن رأيك، وربما كنتَ على صواب، لكن التوقيت غير مناسب!!
سيندهش كثيرون عندما يكتشفون أن “الصف الوطني” لم يكن موجودا أصلا حتى قبل النكبة وأثناء النكبة وبعد النكبة. لم يحدث ولو مرة واحدة أن تشكل صف وطني جامع تحت راية واحدة، حتى في أصعب اللحظات وأشدها حرجا؛ في حرب 1948 وقبلها وبعدها.
وقد ظل شعبنا منقسما بين تيارات مختلفة، أو على الأقل بين تيارين مركزيين، حول القضايا المصيرية. ولا مجال للتفصيل في قضية من التاريخ القريب، ويمكن لمن شاء الرجوع إلى عشرات المؤلفات التي صُنّفت في هذه القضية.
هل يعلم الحريصون “على الصف الوطني” أن هناك من أبناء شعبنا وقياداته من كان ضد الإضراب العام سنة 1936 الذي خرجت منه ثورة 36-39؟
وهل يعلم هؤلاء أنه قبل ذلك كان هناك من أبناء شعبنا من عمل مع الانجليز ودول الاستعمار الأخرى وقبائل جزيرة العرب لإسقاط الخلافة العثمانية، بينما تصدى شرفاء شعبنا لهذه المؤامرة؟
هل يعلم هؤلاء أنه مع تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين في الثلاثينات، ثم في الأربعينات (قبيل النكبة)، كان هناك من أيد هذه الهجرة، ولم يرَ فيها خطرا على فلسطين وشعبها، إلا بعد أن فقد أرضه وبيته ليسكنه المهاجرون اليهود؟
ربما أن هؤلاء لا يعلمون لأنهم لم يقرأوا التاريخ، وآخر عهدهم بالمعلومات هو صفحات الفيسبوك.
مؤلم أن تجد نفسك تخوض في هذه القضية الملغومة بمختلف أنواع الألغام، ولكن لا بدّ مما ليس منه بدّ. فقد طفح الكيل وطفّ الصاع، ولم يعد هناك متسع للبحث عن أعذار لأحد، أيا كان هذا الأحد!
هكذا نجد اليوم أن شعبنا منقسم حول طبيعة القضية الفلسطينية؛ بين قائل إنها قضية سياسية وخلاف على الأرض، وبين قائل إنها قضية عقائدية دينية. وبين قائل إن الحل يكمن في دولة ضمن حدود 1967، وقائل بالاكتفاء بكنتونات داخل أراضي 67، وقائل بكافة أراضي 1948، وقائل بقبول الواقع الذي فرضه المشروع الصهيوني على الأرض، والقبول بالطعام والشراب وفرص العمل. فأين الصف الوطني من هذا؟
ونجد شعبنا منقسما حول اتفاقيات أوسلو، ما بين مؤيد بلا تحفظ، ومؤيد بتحفظ، ورافض بلا تحفظ، ورافض بتحفظ. فأين هو الصف الوطني؟
ونجد شعبنا منقسما حول ثورة الشعب السوري، بين قائل إنها ليست ثورة، بل مؤامرة كونية على “المقاومة والممانعة”، وقائل إنها ثورة ضد نظام طائفي قاتل لشعبه، مدعوم من قوى تمثل أعداء الشعوب العربية والأمة الإسلامية. فأين هو الصف الوطني؟
ونجد شعبنا منقسما حول قضية المشاركة في الكنيست الصهيوني، بين مؤيد بلا ضوابط، ومؤيد بتحفظ، وبين معارض مبدأي، ومعارض واقعي. فأين هو الصف الوطني؟
ونجد شعبنا منقسما حول الموقف من انقلاب السيسي في مصر. فأين هو الصف الوطني؟
ونجد شعبنا منقسما حول طبيعة وشكل وتفصيلات الفعاليات الوطنية مثل ذكرى يوم الأرض وذكرى هبة القدس والأقصى. فأين هو الصف الوطني؟
ونجد شعبنا منقسما حول قضايا اجتماعية وقيَمية وأخلاقية، مثل قضايا الحريات الشخصية، وقضية المرأة، وقضية الشذوذ الجنسي، وقضية سن الزواج للفتاة وغيرها من القضايا. فأين هو الصف الوطني؟
ونجد شعبنا منقسما حول قضية الاندماج في مؤسسات السلطة والأسرلة والتعايش والشراكة مع الأحزاب الصهيونية اليسارية أو التي تسمي نفسها يسارية؟ فأين هو الصف الوطني؟
ونجد شعبنا منقسما إلى شظايا حول مستقبل لجنة المتابعة العليا، ما بين مناد بالانتخاب المباشر وتحويلها إلى مجلس وطني محلي أو برلمان لفلسطينيي الداخل، وبين مُكتفٍ بإعادة الهيكلة وإدخال تعديلات على نظامها الداخلي، وبين مُصرٍّ على إبقاء الحال على ما هو عليه. فأين هو الصف الوطني؟
شعبنا منقسم حول قضايا أكثر بساطة من هذا. تجده منقسما حول قضية إعلان الإضراب العام في المناسبات الملتهبة، وحول قضية أصغر بكثير؛ مثل قضية رفع الأعلام في المناسبات الوطنية، بل هو منقسم حول من سيتحدث ومَنْ يمثل مَنْ في حديثه على المنصات “الوطنية”. فأين هو الصف الوطني؟
شعبنا منقسم حتى حول قضية مراكز الشرطة في البلدات العربية، بين مؤيد ومشجع لها، وبين رافض كليا لوجودها، وبينهما شريحة “مع” بتحفظ، و “ضد” بتحفظ كذلك، فأين هو الصف الوطني؟
هذه فقط قائمة رئيسية من القضايا والملفات التي يُفترض أن يكون حولها التفاف يعبر عن “وحدة الصف الوطني” الحقيقية. ولأن هذا لم يحدث في أي ظرف من الظروف على الهيئة التي يجب أن تكون عليه فإن الحديث عن “وحدة الصف” وعن “شق الصف” لا يعدو كونه مناكفات سياسية عبثية يهدف أصحابها إلى إسكات كل صوت يخرج عن “صفهم الوطني” الذي حددوا هم معالمه وأبعاده وشكله وطبيعته. بل إن المسألة أكثر من هذا. إنها محاولات لإنهاء وجود أي صوت يغرد خارج سرب “الصف الوطني” الوهمي. علما أن هذا التغريد في حقيقته، هو هو المعبّر عما يجب أن يكون عليه الصف الوطني في الحقيقة.
وهكذا يخرج عليك من يقولون، وهم يعترضون على الموقف من تصريحات الأسير الأخرس: نعم، نحن مع حرية الرأي والموقف، ولكن عليك أن تختار الوقت المناسب، ولأن الأسير الأخرس كان مضربا عن الطعام طوال أكثر من 100 يوم، وكان في وضع صحّي سيء يهدد حياته، فإنه لا يجوز انتقاد تصريحاته المؤيدة لنظام بشار الأسد وجيشه وعصابته، لأن هذا يعتبر إثارة للفتنة وشقا للصف الوطني. وعليك أن تختار الوقت المناسب لإبداء رأيك وإلا فاسكت!!
ولست أدري كيف يكون هذا إثارة للفتنة وشقا للصف الوطني غير الموجود أصلا؟!!
ومن هو هذا العبقري الذي لا يشق له غبار، الذي يقرر متى أعبر عن رأيي، ومتى لا يسمح لي بالتعبير عن مواقفي؟! ومن قال إن انتقاد الأخرس (وغيره بطبيعة الحال) يؤدي إلى شق الصف الوطني المنشقّ أصلا، بل المبعثر إلى شظايا؟ إنما هذا الأسلوب الفظ في التعاطي مع قضية حرية التعبير عن الرأي، بل وأكثر من ذلك ضرورة ووجوب التعبير عن الموقف، إنما هو حجر على هذه الحرية وحجر على عقول الناس. وكأنهم هم فقط الذين يعرفون متى وكيف ولماذا وأين يجوز التعبير عن الموقف ومتى لا يجوز!! وكأن النساء أُصبن بالعقم بعد أن أنجبنهم!!
لا أحد يقرر للناس متى يعبرون عن مواقفهم. والأسير الأخرس وسائر إخوانه وأخواته من الأسرى والأسيرات تاج فوق رؤوسنا لأن قضيتهم عادلة، وهي بالنسبة لنا ثابت من ثوابتنا، ولكن آراءهم ليست بقرة مقدسة لا يجوز الاقتراب منها، حتى لو كانوا في حالة تستدعي التعاطف الإنساني والوطني والديني. هذه قضية وتلك قضية أخرى. والأخرس- فك الله أسره- ليس منزّها ولا معصوما، وهو كغيره من الناس، يقول ما يريد ويعبر عن مواقفه كيف يريد، ومن حق الناس أن يعبروا هم كذلك عن مواقفهم من تصريحاته، ولا أحد يملك الحق في تحديد هذا الحق أو تقييده. بل إن التعبير عن الموقف من تصريحات الأخرس أو أي تصريح يثير الجدل (على أقل تقدير) هو واجب لا يجوز التنازل عنه بحجة أن الوضع لا يسمح والتوقيت غير مناسب. فالذي يسمح لنفسه أن يثير كل هذه الزوبعة عليه أن يتوقع ردود فعل منتقدة أو رافضة أو غاضبة. ذلك أن السكوت بهذه الذريعة سيفسَّر على أنه موافقة ضمنية وصامتة على تصريحاته. والمسؤولية الأخلاقية والوطنية (الحقيقية) والدينية تفرض على كل شريف محب لشعبه وأمته، وداعم لحق الشعوب في التحرر من ربقة الأنظمة الفاسدة الغارقة في بحور دماء شعوبها، ألّا يتأخر في إظهار الموقف، دون أن يلتفت إلى شماعة “الفتنة” و “وحدة الصف الوطني”!
ولعل هؤلاء القوم الذين يصدّعون رؤوسنا صباح مساء بسمفونية “إثارة الفتنة” يشرحون لنا ما هي الفتنة، وما معناها الحقيقي، ومتى يكون الأمر فتنة، ومتى لا يكون، وما الذي يمكن اعتباره فتنة؟ وإلى أن يشرحوا لنا ذلك ويفسروه، فإن كل ما يقولونه حول “شق الصف الوطني” هو مجرد “صف كلام” بهدف إسكات كل صوت لا ينسجم مع تصوراتهم ومواقفهم. والحقيقة التي لا أظن أن منصفا قد يماليء فيها هي أن الصوت الذي يريدون إسكاته هو تحديدا الصوت الإسلامي، الذي يعبر عن ضمير شعبنا وعن تطلعات أمتنا.
ملاحظة أخيرة: أرى شخصيا أن هناك فرقا بين العمل المشترك في المناسبات المختلفة ووحدة الجهود في هذا العمل، وبين “وحدة الصف الوطني”. نعم، هناك عمل مشترك، وهناك وحدة جهود لإنجاز أي عمل مشترك، لكن هذا لا يعبر في الحقيقة عن “وحدة صف وطنية” حقيقية، لأنني أفهم أن وحدة الصف الوطنية تكون في تحديد استراتيجية واحدة ذات هدف أو مجموعة أهداف يتفق الجميع ليس فقط على السعي إلى تحقيقها، وإنما أيضا على آليات الوصول إلى الهدف.
وختاما: إن عدم وجود صف وطني حقيقي لا يعني إطلاقا رفع أيدينا والاستسلام، فمجالات العمل المشترك كثيرة ومتعددة، غير أن المطلوب هو احترام عقول الناس وعدم الاستخفاف بوعيهم الذي يفوق في كثير من الأحيان وعي قيادات تريد أن تفرض رأيها وأجندتها وتحييد أي صوت مخالف.