ما أعجب هذا الزمان، وما أشد انقلاباته
د. أنس سليمان أحمد
“إذا قمتم بعرض هذه المسرحية التي تقدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسوف أستخدم صلاحيات الخليفة التي أتمتع بها، وسأحرّض الهند وبلاد العرب وكل العالم الإسلامي ضدكم”، إلى هنا انتهى كلام السلطان العثماني عبد الحميد، في كلمات أرسلها بكل وضوح إلى حكومة فرنسا، عندما جرى الاستعداد لعرض مسرحي كتبه مارك دي بورنير يحمل عنوان “محمد” يتضمن الإساءة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، لم تكن في قاموس السلطان عبد الحميد كلمات: ندين ونشجب ونستنكر.
وبالفعل نجح السلطان يومها بوقف هذه المسرحية المسيئة لرسولنا الأكرم، فلم يكن موقفه مبنياً على ضغط شعبي، أو مظاهرات ألجأته للتدخل، بل بمجرد أن تناهى إلى علمه هذا الحدث، سارع للتعامل معه انطلاقا من وضوح الهوية.
في المقابل طالعنا ووجدنا أحزاباً وحركات في مجتمعنا بل وفي عالمنا الإسلامي والعربي لم تحرك بنت شفه، بل ولم تصدر بيانات تنديد واستنكار للإساءة لرسولنا الأكرم، بل تعمدت بعض الأحزاب في مجتمعنا إلى المساواة بين الضحية والجلاد، وكأن الدفاع عن المقدسات الإسلامية تطرفاً، واستعداءً للآخر، فمتى تعي هذه القيادات!! أن الدفاع عن المقدسات ليس تطرفا، وليس تخندقا مع الإرهاب؟ متى تعي هذه القيادات!! أن الدفاع عن المقدسات إن لم يكن مطلبا لهم فهو حقٌ لمجتمعهم؟
إن مسيرة النفاق وصناعة الفتن ضد الإسلام والمسلمين من لدن صانع النفاق الأول في دولة الإسلام، عبدالله بن أبي بن سلول، الذي كان يجهز نفسه ليكون ملكاً على المدينة، فكانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة له طامة كبرى، وتبديداً لحلم كان يعد لتجسيده على أرض الواقع طويلاً، فانتكس منذ ذلك الحين.
عبدالله بن سلول لم يكن فرداً، بل بذرة خبيثة لظاهرة بدأت صغيرة ثم ترعرعت ونمت حتى استفحلت وبدأت تشق طريقها بكل الوسائل المتاحة، تقوى حيناً وتخفت حيناً آخر، لكنها لم تتوقف إلى يومنا هذا، فاليوم أينما تلتفت ستجد منافقاً أو زمرة منافقين بصورة وأخرى، تعددت أهدافهم وتنوعت، لكن منهجهم واحد هو بث الفرقة، وروح الهوان والهزيمة في النفوس، مع إكمال مسيرة زعيمهم في خذلان المسلمين أينما كانوا، فاليوم تكثر مساجد الضرار أينما وليت وجهك، حيث التآمر يتواصل على الإسلام والمسلمين وبأيدي من يسمون أنفسهم مسلمين، سياسيين كانوا أم مفكرين أم إعلاميين أم أصحاب لحى، وأشباههم كثير.
إن المفارقة اليوم أن البيانات التي تصدر، والأقوال التي تقال، والحراك الذي يقاد، من الذين يتهمون الإخوان بمضاهاة أنفسهم بالإسلام، هم الذين يقصرون، بلسان الحال ولحن الخطاب، الإسلام على الإخوان، ويخرجون أنفسهم من قضايا المسلمين، بالانحياز الصريح لقوى اليمين العالمية المعادية للإسلام، بزعمهم أنّ مواقف تلك القوى تستهدف “الإسلام السياسي” لا الإسلام، إن مضاهاتهم ما هي إلا إعلان صريح بالحرب على الإسلام، لأنّ الخصوم أنفسهم يشنّون هذه الحرب على الإخوان، وهم الآن يجعلون النبيّ إخوانيّا!!
إن قضية الرسوم المسيئة لنبينا الكريم، كشفت تماما الخندق الذي يعسكر فيه خصوم الإسلاميين، من أصحاب الخطاب اليميني الوطني الشعبوي الأهوج، وحلفائهم من قوى متعلمنة يعميها الحقد الأيديولوجي عن رؤية الأشياء في الواقع كما هي.
مما أعجبني رداً على هؤلاء، ما خطّه الشاعر والكاتب عبد الرحمن يوسف، وكأنه يتكلم بلسان حال كل مسلم حر، كم تخطئ بعض الأقلام الأوروبية العربية التي تحاول أن تحاسب المسلمين على تطرف بعض المنتسبين للإسلام، وعلى عنف حدث في الفترة الماضية تستغله أبواق الدولة الفرنسية- وصهاينة العرب- لكي يخلطوا الأوراق، ويعمموا التهم على أمة كاملة.
هذا الكلام مرفوض جملة وتفصيلا، لأن مجرد الانسياق مع هؤلاء للدفاع عن النفس يعتبر تسفلا غير مقبول، ويعتبر هزيمة لا مبرر لها، وفيه شبهة قبول بالوقوف في قفص اتهام بحجم الكرة الأرضية، ولا أدري ما علاقة قولي إني أرفض إهانة الرسول الكريم، بأن ينتفض في وجهي إنسان متحذلق قائلا: “وهل تقبل بقتل المدرس الفرنسي؟”، لا يوجد أي شبهة تقتضي أن أقول إني أرفض العنف جملة وتفصيلا إذا قلت إنني أحترم معتقدات الناس جميعا ، فلا علاقة مثلاً لمن قتل عشرات المصلين في نيوزيلندا بمعتنقي دينه، ولا نجرّم إلا من يؤيد جريمته، هكذا يتعامل العقلاء مع هذه الأحداث، “كل نفس بما كسبت رهينة” .
ما أعجب هذا الزمان، وما أشد انقلاباته، وما أسوأ نخبه!