“أوسلو”.. مشروع مأزوم وطريق مسدود (6)
تبعات وفاة عرفات على حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية (ب)
تبعات وفاة عرفات على حركة “فتح” والسلطة الفلسطينية (ب)
ساهر غزاوي
استكمالا للحديث عن تبعات وفاة ياسر عرفات على حركة “فتح” والسلطة الفلسطينية الذي تناولنا إحدى جوانبه في المقالة السابقة، فإنه ومع وفاة عرفات 2004، واختيار محمود عباس خلفًا له، واجه الحرس القديم (العديد من أعضاء المجلس الثوري وقادة الحركة الميدانيين) انتكاسة بالغة أضعفت قوته وزادت من حظوظ خصمه، وخاصة بعد انضمام بعض الشخصيات والرموز الموالية للحرس القديم إلى الجهة الأخرى، وباتت موازين القوى تميل شيئا فشيئا لصالح الجيل الجديد بقيادة محمود عباس الذي عمل منذ توليه قيادة فتح، على التعامل مع معارضيه في حركة فتح بالإقصاء؛ حيث قام بإقصاء معظم القيادات التاريخية لفتح مثل فاروق القدومي؛ حين جرده من منصبه في الدائرة السياسية لمنظمة التحرير؛ ومن ثَمَّ إقصاؤه من مركزية فتح وهذه الحالة تمثل نموذجًا لتفرد عباس بالقرار؛ مستغلاًّ قيادته للسلطة والتحكم بالأموال، وزادت حدة الأزمات داخل الحركة، بعدما ظهر الصراع بين محمود عباس، ومحمد دحلان. وكان من تبعات ذلك هو إبعاد عباس لدحلان عن حركة فتح وإقصاؤه، وتحريك ملفات فساد مالي ضده، والضغط على قيادات فتحاوية للابتعاد عنه، وهو ما أحدث أزمة عميقة داخل فتح فهناك تيار واسع داخل الحركة مازال يؤيد دحلان. ومما لا شك فيه أن الصراع الدائر حاليًا بين عباس ودحلان يعكس عمق الأزمة داخل حركة فتح بجوانبها التنظيمية والسياسية، ففي حين يُحمِّل أنصار عباس مسؤولية ما جرى لدحلان، يرى أنصار الأخير أن انحدار شعبية فتح وتراجع قوّتها إلى هذا المستوى جاء في عهد عباس.
وبناء على ما ذكر، فإن قيادة السلطة الفلسطينية الممثلة بحركة فتح تعيش في حالة من التفسخ والترهل، بحيث أنها ما زالت تعيش ارهاصات مرحلة ما بعد عرفات، وما يفاقم من ذلك، افتقادها للحراك السياسي والتنظيمي الداخلي، وضعف الأطر والمؤسسات القيادية، وتعدد مراكز القوى والنفوذ والاجتهاد فيها. والمشكلة أن لواء القيادة أو المرجعية السياسية ما زال مفتقداً بين أبوات هذه الحركة، أو ما تبقى من قيادتها التاريخية. أما بالنسبة لمحمود عباس، فقيادة فتح لم تنعقد له، كما هو معروف، برغم مكانته التاريخية في هذه الحركة. ورغم كل الجهود التي يبذلها لترشيد وضبط ومأسسة هذه الحركة، وذلك يعود لجملة من الأسباب التاريخية السياسية والشخصية، وضمنها طريقة إدارة الرئيس الراحل عرفات.
الفوضى والاضطراب وعدم الانتظام والافتقاد إلى المرجعية في فتح ينعكس سلبا على عموم الساحة الفلسطينية أيضا. ثم إن ظهور حركة حماس كمنافس قوي لحركة فتح على مكانة القيادة في الساحة الفلسطينية، خصوصا بعد الانتخابات التشريعية عام 2006. ومشكلة فتح أن حماس لم تعد فقط كمعارضة، من خارج النظام الفلسطيني، وإنما هي باتت تعتبر نفسها بمثابة بديل جدّي لحركة فتح في مكانة القيادة أيضا. خصوصا بعد أن استطاعت الوصول إلى سدة السلطة، وشكلت الحكومة، وباتت جزءا من النظام السياسي الفلسطيني السائد. باستثناء منظمة التحرير. والحاصل فإن الانتخابات التشريعية أنجبت حالاً من التعادل في النفوذ الشعبي وفي القوى بين فتح وحماس. ما استتبع انبثاق واقع من الازدواجية، وربما المزاجية والفوضى والتضارب، في ممارسة السلطة والسياسة، في الساحة الفلسطينية، خصوصا في ظل ضعف الفصائل الأخرى.
ومن أبزر الأزمات المعقدة التي تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني وبنية السلطة الفلسطينية وحركة فتح، هي خلافة محمود عباس الذي تجاوز عمره الثمانين عاما، وتعتبر من أبرز نقاط الارتكاز التي يدور الصراع حولها داخل أطر حركة فتح التي تسيطر على مؤسسات المنظمة والسلطة، حيث تتجه أعين جميع المتنافسين سواء داخل حركة فتح أو المنظمة للموقع الأهم وهو رئاسة السلطة الفلسطينية؛ فقد استغل أبو مازن سيطرة حماس على قطاع غزة صيف عام 2007 لتعزيز مكانته السلطوية وهيمنته داخل النظام السياسي الفلسطيني. وبعد خسارة فتح للانتخابات التشريعية عام 2006 أمام حماس، سعى أبو مازن لتحويل هذه الخسارة إلى نصر شخصي في الضفة الغربية من خلال العمل على تصفية نفوذ حركة حماس التنظيمي من جهة، وإقصاء منافسيه داخل النظام لضمان بقائه وتثبيت أركان حكمه من جهة أخرى. غير أن سعي أبي مازن لإقصاء منافسيه داخل فتح أدَّى إلى زيادة التصدعات في جسم الحركة، وخاصة مع تيار محمد دحلان، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن خان يونس وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح. فاليوم التالي لأبي مازن سيشهد على الأغلب فوضى وصراعات شديدة على المواقع القيادية التي يحتلها أبو مازن (وخاصة في حركة فتح والسلطة والمنظمة) إلا أن ذلك لا يعتبر السيناريو الوحيد؛ كما يرى مراقبون، فربما ستدفع شبكة المصالح المعقدة التي تم بناؤها خلال السنوات الماضية الجميع إلى التعاون في التوافق على خليفة لأبي مازن، لإعادة تجديد الهيئات القيادية للحركة، والمحافظة على استقرار النظام وعدم إعطاء حماس فرصة لمراكمة إنجازاتها والاستفادة من أزمات فتح الداخلية. ومن الواضح أن جميع العوامل التي أدت خلال السنوات الماضية إلى أزمات متتالية في السلطة تقود حاليًا إلى أزمة لا يمكن تجنبها، خاصة في سياق انهيار عملية السلام وفشل حركة فتح في التوافق على خليفة لأبي مازن، وهو ما قد يؤدي إلى تمزق الحركة وفتح الباب أمام إمكانية انهيار السلطة.
الفرق بين عرفات وعباس
في إطار ما ذكر في شأن (تبعات وفاة عرفات على حركة “فتح” والسلطة الفلسطينية)، نستطيع أن نلخص الفرق بين الراحل ياسر عرفات وخليفته محمود عباس في أن كلا الزعيمين آمنا بأن مفاتيح الحل بيد الولايات المتحدة، لكن أميركا أعلنت صراحة أن أي حل يتخطى المشروع الإسرائيلي وهم، والرجلين ملتزمان بنهج إنشاء دولة فلسطينية في حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 عاصمتها القدس الشرقية، وحق عودة اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية. لكن جوهر الفرق بينهما يتلخص بزي كل منهما، فالبلدة الكاكي، في إشارة للزي العسكري الذي لازم عرفات، عكست نهجه الثوري ومزاجه بين المفاوضات والمقاومة، وهو ما انعكست تجلياته في انتفاضة الأقصى التي انطلقت عام 2000. مقابل دبلوماسية سياسية لصاحب ربطة العنق والبدلة الرسمية أبو مازن الأقرب إلى الرجل السياسي منه إلى الرجل الثوري والذي جعل من المقاومة وحق العودة حقا فرديا. يضاف إلى ذلك اختلاف الظروف التي أحاطت بالرئيسين كل في مرحلته، عرفات جعل من الشعب وفصائله مرجعية له في القضايا الحساسة يمتنع عن تقديم تنازلات، خلافا لعباس.