صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
تعود العلاقات الإسرائيلية الأردنية كما ذكرت سابقا، إلى ما قبل قيام الأردن عام 1921 وقيام إسرائيل عام 1948، فقد ارتبطت علاقات تطورت باستمرار بشكل لافت بين الحركة الصهيونية والحكم في الأردن، بناء على قاعدتي المصالح والمفاسد بينهما والحماية الخارجية لكليهما، فكلاهما من نتاجات سايكس بيكو مباشرة، وإن اختلفت أسباب وجود كل منهما، وقد شهدت هذه العلاقات صعودا وهبوطا تبعا للظرفين الإقليمي والدولي من جهة، والظروف الداخلية من جهة أخرى، ولذلك ارتبط الكيانان مبكرا بمصالح استراتيجية، وشكّلت قضية القدس والمسجد الأقصى إحدى هذه النقاط “الجوهرية” باعتبار أن المسجد الاقصى ارتبط مباشرة بصيرورات الأسرة الهاشمية، وفقا لما رسمته سياسات لندن “الاستعمارية”.
تاليا، سأبيّن عبر بعض ما سأنقله من مذكرات للقائد العروبي الفذ عبد الله التل، بيانا لما ذكرته آنفا، ومن ثم سأعرج على التداعيات التي آل إليها المسجد الأقصى المبارك، وكيف أضحى وحيدا مع ثلة قليلة العدد والإمكانيات من الفلسطينيين، ترقب أحواله وتعمل جاهدة ألا يصل به المصير إلى ما صار إليه المسجد الابراهيمي في مدينة الخليل.
عبد الله التل، الشاهد الحي لفهم بعض من جدل العلاقات.
في مذكراته، يكتب القائد الأردني الكبير عبد الله التل، قائد معركة القدس عام 1948 ما يلي: (… وفي القدس شرحت لهم الموقف الحربي في هذه البقعة المقدسة التي تعتبر مفتاح النصر والهزيمة في فلسطين). هذه الكلمات كتبها في مذكراته (صفحة 299)، حين استقباله للوفد البرلماني العراقي الذي تم اختياره ليزور مواقع القتال في فلسطين يوم الخميس 29/7/1948.
مذكّرات عبد الله التل، مليئة بالتهم الموجّهة مباشرة وبلا مواربة للحكم الهاشمي في عمان وبغداد، فيما يتعلق في ضياع القدس، خاصة وأن فرصة تاريخية كانت سانحة أمامهم لسحق الجيش الإسرائيلي في القدس وغيرها من المناطق، ولكن السياسات البريطانية وتعلق الحكمين في بغداد وعمان بلندن، أدى الى الراهن المُعاش الذي تعيشه القدس والمسجد الأقصى المبارك.
أضع هذه المقدمة، لأبيّن أن أهمية القدس ما زالت قائمة ولم تتغير مطلقا، بل كلما تقدّمت بنا الأيام والأحداث، زادت أهمية هذه المدينة، ومن الطبيعي أن نتحدث عن تعاظم أهمية مقدساتها. في ذات المذكرات يكتب التل عن زيارة الأمير عبد الله بن الشريف حسين الى مدينة القدس يوم الأربعاء 18/7/1948، وكانت زيارته بهدف الاستطلاع. عن هذه الزيارة التفقدية يكتب التل بعد أن رآه الأمير مضطربا بعض الشيء بسبب تذمره من منع الجيش العربي، أي الأردني الالتحام بالجيش اليهودي وتجنيب القدس المعارك الدائرة، فيما تتعاطى القوات اليهودية مع القضية كأنها حرب، يقول إنه بعد أن أصغى الى حديثه وأظهر ارتياحا له، وتمتم قائلا: (آه، إيش نسوي يعني…؟) ثم وعدني قاطعا بتلبية طلباتي ثم يستدرك التل فيقول: (…. ثم ضاع الامل وظهر أن الأمير أخلف وعده، فقد كان عليّ أن أفهم المعنى البعيد لتأوهات الأمير، فلا أنخدع بالوعود، لأنَّ سموه لم يكن مالكا زمام نفسه- أنظر (صفحة 298)، وهذا معناه أن مسألة القدس ومآلاتها لئن تكون تحت الاحتلال الإسرائيلي مبكرا مسألة وقت ومتفق عليها، ومن باب الأمانة أيضا، فإن هذه الشهادة لا تعني مطلقا أن الملك عبد الله الأول كان موافقا على ذلك، بل على العكس تماما، ولكن على ضوء سياسات المصالح والمفاسد والتجربة التي مرَّ بها والدهم وهم معه في تلكم التجربة، تقدّمت مصالحهم على مصلحة القدس.
نتنياهو وسياسة المخاتلات واقتناص الفرص
منذ اعتلاء نتنياهو عرش السلطة الإسرائيلية عام 2013 وتحالفه مع اليمين الديني والتزامه بتنفيذ استحقاقات انتخابية لهذا اليمين، تتعلق بفرض السيادة على كامل القدس والمسجد الأقصى وإحداث تغيير جوهري فيه لصالح اليهود، تشهد العلاقات بين البلدين صعودا وفتورا دائمين، وصل في السنوات الأخيرة خاصة بعد عام 2015 الى حالة من التسمم كما عبر عنها الباحث الإسرائيلي يتسحاق جال، محذرا حكومته من الاستمرار في غيّها اتجاه الأردن، باعتبار أنه دولة استراتيجية في المنطقة وتأثيرات سياساته وإجراءاته ستكون مباشرة على حاضر ومستقبل إسرائيل.
عمليا، نقطتان مركزيتان سممتا العلاقة بين الطرفين: استهتار الحكومة بالاتفاقية وعدم تنفيذ العديد من بنودها، ومسألة القدس وجوهرها المسجد الأقصى، ثم أضيف إلى ذلك ضم الاغوار.
المؤسسة الإسرائيلية تعمل جاهدة على اقتناص الفرصة التاريخية التي سنحت لها مع وجود ترامب في البيت الأبيض والتزامه بتنفيذ طلبات اللوبي الصهيوني- الديني- الإنجيلي، فكانت موافقته على ضم الجولان، ومناطق واسعة من الضفة الغربية وضم القدس والاعتراف بها عاصمة، ولكن الأهم من كل ذلك جعل المسجد الأقصى مكانا يتعبد فيه اتباع الديانات الثلاث، وهوما نص عليه (اتفاق إبراهيم) بين الامارات وإسرائيل.
الاحتلال الإسرائيلي في القدس والمسجد الأقصى، يفرض سياسات الامر الواقع، مستثمرا حالات التحول والتوجس والفوضى السائدة في منطقة الشرق الأوسط، ودافعا بسبب عمق العلاقات المخابراتية التاريخية بين أنظمة الرجعية العربية والاحتلال، لتعزيز هذه العلاقات والدفع بها من السر الى العلن، ولذلك عكف في العقدين الأخيرين على تعزيز العلاقات عبر بوابات اقتصادية ومشاريع علمية وأكاديمية مع المحيط العربي الرجعي المرتمي بحضن الإدارة الامريكية، طمعا بالحماية من التهديدات الخارجية المتوهمة ومن التهديدات الداخلية الحقيقية، وملبيا لكل ما تطلبه الحركة الصهيونية، وهذا التحالف الرجعي ممثلا بمحور الرياض- القاهرة، ما عاد يرى في القدس والاقصى قضيته، وهي في الحقيقة لم تكن في يوم من الأيام قضيته أصلا، اللهم إلا أنها كانت الشماعة التي تُسترق بها الشعوب وتنهب بها الثروات.
بذلك يتقدم الاحتلال الإسرائيلي مكتسبا بعض النقاط في حربه ذات النفس الطويل على بناء هيكلهم في المسجد الأقصى، عبر استغلال الفرص السانحة جغرافيا وتاريخيا وسياسيا.