حماة أم غزاة؟ تاريخ فرنسا في إفريقيا مليء بالكوارث، وهذه أبرز أفعالها
رغم أن الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة، أعلنت فشل تجربة “فرنسا كشرطي إفريقيا” وكذا عدم جدوى العمليات العسكرية الأحادية إلا أنه وبدل تراجعها يبدو أن التدخلات العسكرية تضاعفت بذريعة حماية مصالحها حيناً والحفاظ على أمن الدول الإفريقية وأمن أوروبا أحياناً أخرى.
لم تكف فرنسا يوما عن التدخل العسكري في إفريقيا فالتاريخ يسجل أنها تدخلت أكثر من خمسين مرة منذ 1960 تاريخ استقلال مستعمراتها السابقة.
لكن تلك التدخلات التي ظلت تتسم بالآنية إلى عهد قريب سرعان ما أخذت مؤخراً تجنح نحو انتشار دائم وأكثر استراتيجية.
فهل الفرنسيون في منطقة الساحل من أجل حماية الأفارقة من تغول الجماعات الجهادية أم أن هذا التحرك هو بمثابة غزو جديد أملته المصالح الاقتصادية والحيوية لباريس وتنامي نفوذ دول أخرى أصبحت تزاحمها في المنطقة؟
ولماذا تتحول التدخلات والقواعد العسكرية من مؤقتة إلى دائمة؟
لماذا غيرت فرنسا استراتيجيتها؟
فرضت فرنسا على مستعمراتها السابقة اتفاقيات عسكرية تضمنت “سياسة الدفاع المشترك” التي شملت إلى جانب إرسال ضباطها للتدريب في فرنسا إنشاء قواعد عسكرية ونشر القوات الفرنسية بشكل دائم والتدخل العسكري في هذه الدول للحفاظ على مصالحها.
كما اعتمدت فرنسا في تنفيذ سياستها في إفريقيا على ثلاث آليات اقتصادية وثقافية وعسكرية وتمثلت السياسة العسكرية في إقامة قواعد عسكرية حيث كانت تمتلك 100 قاعدة حتى 1960.
ولكن ارتفاع الكلفة والتطور التكنولوجي في الوسائل العسكرية دفع فرنسا إلى إعادة النظر في عدد هذه القواعد فقد
قامت بإعادة تنظيم تواجدها العسكري بحيث يضم الخبراء أكثر مما يضم وحدات عاملة كما قامت بتقليص عدد قواعدها إلى ست فقط.
واحتفظت بقواعد في كل من جيبوتي وتشاد والسنغال وساحل العاج والكاميرون والغابون وكانت آخر قاعدة تمت تصفيتها هي قاعدة بانغي في إفريقيا الوسطى.
في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك 1995-2007، روّج الفرنسيون لـ “مشروع إفريقيا” لإعادة تنظيم التواجد العسكري الفرنسي في القارة، بحيث يضم خبراء ومستشارين.
وتميزت السياسة الأمنية الفرنسية الجديدة في منطقة الساحل الإفريقي بفك الارتباط العسكري إذ تم تخفيض عدد الجنود من 8000 إلى 5600 جندي خلال الفترة الممتدة من 1997 إلى 2002.
وترتكز هذه القوات في خمسة مواقع وهي أبيدجان وداكار، وجيبوتي، وليربفيل وجنامينا.
كما اتضح تخلي فرنسا عن دورها العسكري في منطقة “الفرنك الإفريقي” في إغلاق قاعدتها بانغي وبوار في جمهورية إفريقيا الوسطى.
مبدأ هولاند
بعد شيراك جاء الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند بـ”مبدأ هولاند”.
ويقوم هذا المبدأ على فكرة التدخل الفرنسي المحدود، استناداً إلى تأييدين دولي ومحلي، على أن يتم الحفاظ على مصالح فرنسا السياسية والاقتصادية في مواجهة نفوذ قوى أخرى، خاصة الصين والولايات المتحدة.
وغلّف الرئيس الفرنسي حقيقة الأهداف الخفية بغطاء الحرب على الإرهاب وتطوير العلاقات.
قادت فرنسا 7 عمليات عسكرية رئيسية في القارة الإفريقية، في السنوات الـ 10 الأخيرة.
بعض تلك العمليات يندرج في إطار المبادرات الدولية، مثل “سانغاريس” (في إفريقيا الوسطى 2013)، أو “هارمتان” في ليبيا (جزء من العملية العسكرية الدولية لحماية المدنيين الليبيين من هجمات قوات الرئيس السابق معمّر القذافي.
أما البعض الآخر، فيندرج ضمن المبادرات الفرنسية، ويضم 5 من أبرز العمليات العسكرية، وهي “برخان 2014″ في الساحل الإفريقي و”سرفال 2013″ في مالي، و”إيبرفييه” في تشاد، إضافة إلى “ليكورن” في كوت ديفوار، و”بوالي” في إفريقيا الوسطى.
بعد فشل الحملة العسكرية الفرنسية في مالي في تحقيق أهدافها والمتمثلة أساساً في القضاء على الإرهاب في شمال البلاد، وحل الأزمة السياسية والأمنية بين الحكومة المركزية والحركة الوطنية لتحرير أزواد صرح وزير الدفاع الفرنسي جان-ايف لو دريان أن الوحدات العسكرية الفرنسية، ستبدأ الانسحاب من مالي في إبريل /نيسان 2013 على أن تحل القوات الإفريقية محل الجنود الفرنسيين في مالي.
لكن ما حدث أن عملية برخان المستمرة حتى الآن حلت محل عملية سيرفال فما الذي حدث؟
تكشفت ملامح المقاربة الفرنسية خلال الجولة الإفريقية لوزير الدفاع الفرنسي السابق جون إيف لو دريان في مايو/أيار 2014 حينما تحدث عن إرساء مقاربة إقليمية في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية لمحاربة الإرهاب تقوم على إقامة أقطاب استراتيجية ولوجستية وتشغيلية في دول المنطقة دائمة لهدف اقتصادي رئيسي يتمثل في تأمين عودة الشركات الفرنسية التي رحلت عنها في وقت سابق بسبب انعدام الأمن.
ويخفي مصطلح “أقطاب” الذي ورد على لسان الوزير الفرنسي رغبة غير معلنة لدى باريس في تركيز قواعد عسكرية فرنسية دائمة، ما يعني أن فرنسا تعود إلى إفريقيا لكن برداء جديد.
اتضح ذلك جلياً في تصريح وزير الدفاع الفرنسي عندما قال إن العمليات العسكرية الفرنسية في القارة الإفريقية الحاملة لأسماء رنانة مثل “سرفال”
في مالي، و”إيبرفييه” في تشاد و”سابر” في بوركينافاسو ستدخل في طور جديد من مكافحة الإرهاب على المستوى الإقليمي.
وأضاف “لو دريان” في حوار مع القناة الفرنسية “بي آف آم تي-في” في الثامن من مايو/أيار “دورنا يكمن في متابعة جهودنا في مكافحة الإرهاب ليس فقط شمالي مالي ولكن أيضاً شمالي النيجر وتشاد”.
توقيت هذه الهيكلة الجديدة المعلن عنها منذ يناير/كانون الثاني 2014 والتي أكدتها الجولة الإفريقية لوزير الدفاع الفرنسي أملتها الأزمة في إفريقيا الوسطى، والحرب في مالي والصعود القوي لجماعة بوكو حرام في غرب إفريقيا وهي كلّها عوامل دفعت نحو تغيير قواعد اللعبة فيما يخص التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة.
وتعد استراتيجية فرنسا الجديدة في الانتشار في المنطقة أيضاً إشارة موجّهة إلى الجماعات المسلحة أو القوى المهددة لاستقرار الحكومات، كما هو الحال مع “حركة القوى الديمقراطية” لـ”كازامانس” (حركة انفصالية في السنغال) أو
الـ”آف بي إي” (الجبهة الشعبية الإيفوارية، الحزب المعارض وحزب الرئيس الإيفواري السابق لوران غبابغو).
وبالتالي يبدو أن الهدف المرسوم على مدى بعيد هو تركيز قواعد عسكرية حقيقية. فالفرنسيون لا يستطيعون الإفصاح بذلك بطريقة مباشرة، لكن الواقع على الأرض يقول بأن فرنسا تقوم بإعادة رسم توجه عسكري جديد في هذا المنحى.
وأضاف الوزير الفرنسي أن “الغابون والسنغال وكوت ديفوار هي البلدان الصديقة حيث تطبق “الاستراتيجية، والتحول الذي طرأ على عملية ليكورن” في كوت ديفوار يخضع لهذا المنطق.
ففي العاشر من مايو/أيار 2014 صرّح وزير الدفاع الفرنسي في أبيدجان قائلاً: “سوف نحول ليكورن (العملية العسكرية الفرنسية في كوت ديفوار) إلى
“قوات فرنسية في كوت ديفوار، حتى يساعد تواجدنا هنا على القيام بتدخلات محتملة في مناطق أخرى انطلاقاً من كوت ديفوار”.
هذا التدخل في حقيقته يكشف عن مساعي باريس للحفاظ على مصالحها داخل القارة، وذلك بعد تراجع نفوذها مقابل تنامي وتزايد نفوذ قوى صاعدة في تعاملاتها الاقتصادية والتجارية في إفريقيا خاصة الولايات المتحدة والصين والهند وكذا اليابان وتركيا.
مواجهة النفوذ الأمريكي في منطقة الساحل
ترتكز فرنسا كدولة عظمى على ثلاثة عوامل: مقعدها الدائم في مجلس الأمن، والقدرة النووية، ثم إفريقيا. وتعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة في الأرض الإفريقية.
لكن فرنسا لم تعد اللاعب الوحيد في المنطقة فقد أصبحت الولايات المتحدة تنافس فرنسا، في غربي إفريقيا، وتظهر هذه المنافَسَة في مخطط “أفريكوم” (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا)، الذي بدأ بتنفيذه الجيش الأمريكي، منذ سنة 2007، وبدأت العمليات، رسمياً، في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2008، بعدد قليل من الجنود، وبكثير من قواعد الطائرات المسيّرة والقوات الخاصة، في النيجر وبوركينا فاسو وفي موريتانيا، وشمال مالي، بذريعة مكافحة الإرهاب.
إن إعادة الانتشار الاستراتيجي الذي تنتهجه فرنسا يجري من جهة أخرى في إطار لعبة اقتسام للأدوار بين القوى العسكرية العالمية، فليس هناك توترات بين القوى لكن هناك تقسيم الأدوار ورغبة في العمل المشترك ضد التهديدات وطموحات من نفس الصنف.
في 24 يناير/كانون الثاني 2014 وصف وزير الدفاع الفرنسي في خطاب ألقاه في مركز البحوث الاستراتيجية والدولية (سي سيس) في واشنطن قدم خلاله الرؤية الأمنية والاستراتيجية الفرنسية في إفريقيا التفاهم بين واشنطن وباريس بأنه “تام”.
القوات المشتركة للتغطية على سياستها غير الأخلاقية بإفريقيا
بعد أن قررت واشنطن تقليل عدد قواتها في المنطقة لجأت باريس إلى تشكيل مجموعة بـ”قوة الساحل المشتركة” جي 5 المكونة من دول الساحل الخمس وهي مالي والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد لمواجهة هجمات الجماعات المسلحة.
لكن، مع فشل هـذه المجموعة في هزيمة ما يسمى الإرهاب بإفريقيا، سعت فرنسا إلى إنشاء عملية جديدة تحت اسم “تاكوبا”، تضم قوات خاصة من نحو عشر دول أوروبية.
لا تعكس تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حقيقة النوايا الفرنسية عندما حاول تقديم بلاده في ثوب جديد خلال زيارته الإفريقية في 2017 على أنها تريد شراكة حقيقية مع إفريقيا وستتخلى عن سياسة الإملاءات المنتهجة منذ عهد الجنرال شارل ديغول لكن الرئيس الأسبق جاك شيراك فعل ذلك.
ففي مارس/آذار سنة 2008، صرّح قائلاً: “دون إفريقيا، فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث”، للتأكيد على أهمية الدول الإفريقية لدى فرنسا للإبقاء على مكانتها كقوة عظمى.