قيس سعيد بعد عامه الأول في الحكم.. ماذا قدَّم “سيد قرطاج”؟
قبل عام، وتحديداً في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2019، تم انتخاب قيس سعيد (62 عاماً) رئيساً لتونس، في مفاجأة اعتبرها متابعون “زلزالاً سياسياً” ضرب المنظومة الحزبية السائدة في البلاد.
ترك الأستاذ الجامعي، المتخصص في القانون الدستوري، مدارج الجامعة والمجال الأكاديمي، ليجلس على كرسي قصر قرطاج، مقتحماً عالم السياسة، من دون إرث سياسي ولا انتماء حزبي.
وقدم سعيد، خلال حملته الانتخابية لسنة 2019، وعوداً لناخبيه، لعل أبرزها الحفاظ على دولة قائمة على العدل والمساواة والسيادة الوطنية.
فما هي حصيلة أداء “سيد قرطاج”، ضمن فترة رئاسية بدأها في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتمتد خمسة أعوام؟
تونس والمؤامرة
منذ الأشهر الأولى لرئاسته، بدا سعيد في موقع المتوعد، ولعل خير دليل على ذلك هو زيارته لمدينة سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية، لإحياء الذكرى التاسعة للثورة التي أطاحت، عام 2011، بنظام الرئيس آنذاك، زين العابدين بن علي (1987: 2011).
فخلال هذه الزيارة، ديسمبر/كانون الأول الماضي، أطلق سعيد عبارة شهيرة، وهي أن “إرادة الشعب ومطالبه ستتحقق، رغم مناورات المناورين والمؤامرات التي تحاك في الظلام”.
وقبل أشهر، اشتدت لهجة الوعيد والتهديد، فلم تخلُ خطابات سعيد، في مناسبات عدة، من تأكيد على أنه “سيواجه كل من يتآمر على تونس”.
وهي خطابات يرى مراقبون أن كلماتها المشفرة تمثل مفاتيح لمعجم المؤامرة على تونس، فلم يكشف سعيد عن المقصود، وهو ما جعله محل انتقادات كبيرة داخل الأوساط المحلية.
الأحزاب والمشيشي.. فتور وغموض
علاقة سعيد بالأحزاب السياسية كانت مستقرة طيلة الأشهر الأولى لحكمه، إلا أنها شهدت فتوراً في الفترة الأخيرة، حتى ذهب البعض إلى القول بأنه “تمرد على النظام السياسي القائم”.
ولعل الدليل على ذلك هو ما رافق تشكيل حكومة هشام المشيشي الراهنة من تجاذبات، إذ ترك سعيد كل مقترحات الأحزاب السياسية جانباً، ليعين بقرار انفرادي وزير الداخلية السابق (المشيشي) على رأس الحكومة الجديدة، خلفاً لإلياس الفخفاخ، الذّي طالته شبهات فساد.
واعتبر متابعون أن سعيد سعى بذلك إلى إقصاء الأحزاب السياسية من هذه العمليّة، ما خلق تصدعاً في علاقته معها، قبل أن يعود ويستنجد ويلتقي بها، من دون حضور المشيشي.
تصرفات سعيد “غير المفهومة” أظهرت خلافاً طفا على السطح بينه وبين المشيشي، ازداد تفاقماً مع تلميح الأخير إلى إجراء تعيينات لمستشارين منتمين للنظام السابق (بن علي)، وهو ما قوبل برفض شديد من سعيد.
آنذاك، قال سعيد، وفق بيان للرئاسة، إن “هناك محاكم تصدر أحكامها باسم الشعب، وإذا كان صاحب السیادة (الشعب) أدان منظومة كاملة (نظام بن علي) بمؤسساتها وأشخاصها وثار علیها وسقط الشهداء والجرحی من أجل إزاحتهم، فلا مجال لأن یعودوا الیوم”.
وبرزت ملامح هذا الخلاف أكثر بعد أن قرر المشيشي سحب وليد الزيدي من التشكيلة الحكومية كوزير للثقافة، بينما استقبله سعيد في قصر قرطاج، معرباً عن دعمه لتوليه حقيبة الثقافة.
فلسطين والتطبيع.. رفض وصمت
منذ الأيام الأولى لحملته الانتخابية، أعلن سعيد دعمه المطلق للقضية الفلسطينية، وأنه لن يتوانى عن مساندة الشعب الفلسطيني في مختلف المحافل، وسيعمل في الخارج من أجل القضايا العادلة.
وأحاديثه المتكررة عن فلسطين وصل صداها إلى دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط، ولقيت إشادة من الفلسطينيين، الذين عبروا عن إعجابهم بموقفه من قضيتهم.
واعتبر سعيد أن “التطبيع مع إسرائيل خيانة عظمى”، وأن “العرب فكرهم مهزوم”، و”ما يحدث في فلسطين هو مظلمة القرن. الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم. من له علاقة مع الكيان الصهيوني هو خائن”.
هذه التصريحات تزامنت مع إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في يناير/كانون الثاني الماضي، ما تُعرف إعلامياً وشعبياً بـ”صفقة القرن”.
وهي خطة أمريكية لتسوية سياسية مجحفة بحق الفلسطينيين ومنحازة لإسرائيل، حيث تواصل الأخيرة بموجبها السيطرة على معظم أراضي الضفة الغربية المحتلة، وتظل مدينة القدس الفلسطينية المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال.
موقف سعيد ظل ثابتاً، إلى أن وقعت الإمارات والبحرين، في واشنطن منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، اتفاقيتين لتطبيع علاقتهما مع إسرائيل، المستمرة في احتلال أراضٍ عربية.
تصريح سعيد بخصوص هذا التطور لقي انتقاداً، إذ قال حينها: “لا نتدخل في اختيارات بعض الدول ولا نتعرض لها، ونحن نحترم إرادة الدول، فهي حرة في اختياراتها وأمام شعوبها، ولكن لنا أيضاً مواقفنا التي نعبر عنها بكل حرية، بعيداً عن إصدار بيانات للتنديد بهذا الموقف أو ذاك”.
ليبيا.. شرعية ودستور
كانت الأوضاع في الجارة ليبيا، أولوية للدبلوماسية التونسية طيلة السنوات الماضية.
وتعتبر تونس أن أمنها من أمن ليبيا، وقامت بعدة مبادرات لجمع الفرقاء الليبيين إلى طاولة الحوار، بحثاً عن حل سياسي.
فمنذ سنوات، يعاني البلد الغني بالنفط من صراع مسلح، فبدعم من دول عربية وغربية، تنازع ميليشيا الجنرال الانقلابي، خليفة حفتر، الحكومة المعترف بها دولياً على الشرعية والسلطة.
سعيد قال في مناسبات عدة إن “الحل في ليبيا يجب أن ينبع من الأطراف الليبية”، معبراً عن “رفضه أي تدخل في هذا البلد من أي طرف كان”.
وأكد أن موقف تونس هو إيجاد تسوية سياسية شاملة لهذه الأزمة تحفظ وحدة ليبيا وسيادتها، في إطار حوار ليبي ليبي جامع، تحت مظلة الأمم المتحدة.
ولكن مواقف سعيد من الملف الليبي بدأت تحمل تأويلات وتفسر بعدة طرق، خاصة حين بادر بجمع أكثر من 35 من زعماء القبائل الليبية بقصر قرطاج، في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ودعا سعيد هؤلاء الزعماء إلى وضع دستور شبيه بالدستور الأفغاني، يكون بمثابة “محطة انتقالية” يقررها الليبيون، من دون تدخل جهة خارجية.
وصرح بأن “السلطة القائمة في ليبيا تقوم على الشرعية الدولية”، لكن “هذه الشرعية لا يمكن أن تستمر، لأنها شرعية مؤقتة، ويجب أن تحل محلها شرعية جديدة تنبع من إرادة الشعب الليبي”.
هذا التصريح كان خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لفرنسا، في يونيو/حزيران الماضي، وأثار جدلاً سياسياً كبيراً في تونس وليبيا.
واعتبر البعض أن طرح سعيد أن تحل شرعية جديدة محل الشرعية الراهنة، وهي حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، يمثل خروجاً عن الموقف التونسي الثابت منذ سنوات، والداعي إلى احترام الشرعية الدولية، وما انبثق عنها من اتفاقات.
واعتبر منتقدون أن سعيد غير مطلع على تركيبة المجتمع الليبي، خاصة في ظل دعوته إلى “دستور ليبي ينبع من القبائل”.
وقد تتبلور الرؤى أكثر في الاجتماع المباشر الأول لملتقى الحوار السياسي الليبي الشامل، الذي تستضيفه تونس، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
مبادرة أممية
مراراً، دعا سعيد إلى أن يكون لتونس حضور دولي مميز، وأكد في مناسبات أن أهمية أن تصبح بلاده قوة مبادرة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
وأطلق سعيد، في أبريل/نيسان الماضي، مبادرة تقضي بالوقف الفوري لإطلاق النار والنزاعات في العالم.
وشدد في مبادرته على ضرورة تضافر الجهود لمواجهة التحديات التي تفرضها جائحة “كورونا”، بكل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
زيارات خارجية
زيارات سعيد الخارجية لم تكن غزيرة، جراء ما فرضته جائحة “كورونا”، على مدار شهور، من إغلاق للحدود وتعليق لرحلات الطيران.
زار سعيد الجزائر كأول محطة في زياراته الخارجية، في مؤشر على قوة العلاقة بين الجارتين، ووفاءً بالتزام تعهد به عند أدائه اليمين الدستورية، في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
كما زار فرنسا، في يونيو/حزيران الماضي، وأعلن ماكرون خلال هذه الزيارة عن قرض فرنسي بقيمة 350 مليون يورو، ضمن التزام باريس بتقديم معونة لتونس تبلغ 1.7 مليار يورو حتى عام 2021.
هذه الزيارة تناولت أيضاً الملف الليبي ومطالبة الطرفين المتنازعين بوقف فوري لإطلاق النار والالتزام بقرارات الأمم المتحدة والبدء في إعادة إعمار ليبيا.
واستقبل سعيد، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وبحثا سبل الإسراع بالعمل على وقف إطلاق النار في ليبيا في أقرب وقت ممكن.
وشدد أردوغان، خلال الزيارة، على أن لتونس دوراً هاماً في استتباب الأمن في ليبيا.