معركة الوعي (34).. الذيــــن قالــــوا “لا”! (13)
حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
***
رجالٌ صدقوا… (3)
الشيح سفر الحوالي
يقبع الشيخ سفر الحوالي (70 سنة) منذ الثاني عشر من تموز 2018 في أقبية التعذيب التي يديرها زبانية ابن سلمان، لمجرد أنه قال “لا” للطريق الذي تسير فيه العصابة الحاكمة من قبيلة آل سعود. وكانت “جريمته” التي ارتكبها أنه رفض سياسات حكومة بلاده ووجه النصائح للعصابة الحاكمة، منطلقا من كتاب الله وسنّة رسوله، اللذيْن أوهَم آل سعود الأمة أنهم يحكمون بهما ويسيرون على هديهما!
لكن القصة أكبر من ذلك. إنها ليست مجرد إسكات صوت ناصحٍ للسلطان يذكّره ويأمره وينهاه، بل هي حرب شعواء دامية خبيثة يشنها أعداء الأمة ضد كل نقطة ضوء فيها، وكل بقعة خضراء، وكل صوت حر، وكل غضبة لله، وكل كلمة حق، وكل صرخة توقظ الأمة من سباتها وتحرك فيها معاني العزة وحقيقة الهوية والانتماء. وما أنظمة وظيفية من أمثال آل سعود وسائر الآلات وجنرالات الدم سوى حجارة شطرنج يحركها اللاعب الأكبر الجالس في واشنطن، ويمسك بخيوطها شياطين الماسونية والصهيونية العالمية.
كان الشيخ سفر الحوالي قبل اختطافه من زبانية ابن سلمان قد ألف كتابا بعنوان “المسلمون والحضارة الغربية” ضمّنه نصائح لآل سعود وإلى ما يسمى “هيئة العلماء” التي تعمل في البلاط الملكي، مذكرا منبها محذرا، ومشيرا إلى المليارات التي دفعها ابن سلمان لترامب، والمليارات التي تدفعها بلاده للغرب الذي يحارب المسلمين. وكان مما جاء في الكتاب (وهو ما نراه تحقق اليوم) أنه وصف دولة الإمارات “بأن كفيلها هو الولايات المتحدة، وأنها مستعدة لتحقيق مطالب اليهود”. ومما قاله في كتابه أيضا: “ولا أظن أحداً من المراقبين السياسيين، أو من أهل النظرة الثاقبة، يشك في أن السيسي والإمارات ومحمود عباس خاضعون بشكل ما لأمريكا، وكذا أكثر الحكام”.
لكن القصة مع الشيخ الحوالي لم تبدأ مع هذا الكتاب، بل إن قصته مع عصابة آل سعود طويلة. وكان أكثر ما أثار العصابة ضده قوله في الكتاب “إن الإسلام الذي يقدمه آل سعود هو إسلام أميركي، لا الإسلام الذي أنزله الله على محمد بن عبد الله، وإن الترف وسوء الإدارة في المملكة إنما هو تحكيم الصبيان”، ملمحا إلى ابن سلمان. هذا إضافة إلى انتقاده الشديد لسياسة المملكة باعتبار إيران هي العدو الوحيد، وأنها أشد عداوة من المشروع الصهيوني والمؤسسة الإسرائيلية، وانتقاده لدعم العصابة لانقلاب السيسي على الرئيس الشرعي في مصر محمد مرسي ودعمه بمليارات الدولارات.
كان الشيخ جريئا صادعا بالحق في عصر ندر فيه العلماء الذين عرفوا كيف يقولون “لا” ومتى يقولونها، وفي وجه من يقذفونها. وقد قال: “وأنا لا أملك إلا الكلمة، ولا خير فيّ إن لم أقلها، وإنما يخاف منها العروش المهترئة والكراسي المهزوزة!”. وفعلا دب الرعب في عرش ابن سلمان وعرش أبيه فاعتقلوه واعتقلوا أمثاله من العلماء العاملين من أجل الحق ونصرته.
عندما غزا الرئيس العراقي صدام حسين الكويت عام 1990، أصيب آل سعود بالرعب خشيةً على عروشهم، وشعروا بالتهديد الذي تتعرض له منطقة الخليج التي يدير شؤون حكمها موظفو البيت الأبيض وولاة العروش الصليبية، فقررت العصابة الحاكمة في الرياض طلب العون العسكري من واشنطن وسائر أسيادها في الغرب لمواجهة صدام حسين. ومن أجل امتصاص الغضب الشعبي طلبت مما يسمى “هيئة العلماء” إصدار فتوى تبيح الاستعانة بدولة كافرة لمحاربة العراق البلد المسلم. وقد أصدرت تلك الهيئة فتوى تحت ذريعة الضرورة تبيح الاستعانة بالغرب لمواجهة خطر صدام حسين الذي اعتبرته الهيئة ظالما غاشما.
في ذلك الوقت كانت بلاد الحرمين المحتلة من عصابة آل سعود تشهد صحوة إسلامية حقيقية برز فيها جيل من الشباب، كان من بينهم سلمان العودة وسفر الحوالي وعوض القرني وغيرهم. وقد تأثر هؤلاء بفكر جماعة الإخوان المسلمين من خلال الشخصيات التي وصلت إلى السعودية فرارا من بطش عبد الناصر والسادات في مصر وبطش الأنظمة في سائر بلاد العرب.
وكان الحوالي أول من أعلن موقفه الرافض لتلك الفتوى التي فتحت الباب لاحتلال الخليج من قبل قوات أجنبية. وقد ألقى محاضرة عام 90 بعنوان “وستذكرون ما أقول لكم” حذر فيها من استجلاب تلك القوى قائلا إنها لا يمكن أن تأتي بخير للبلاد ولا للمسلمين بشكل عام. فكانت تلك المحاضرة أول صوت يكسر حاجز الصمت والخوف، تبعها محاضرات وتصريحات أخرى أدت في نهاية الأمر إلى اعتقال الحوالي والعودة والقرني وغيرهم بهدف إسكاتهم. ودام الاعتقال نحو خمس سنوات، أفرج بعدها عن الحوالي والعودة والقرني وسائر المعتقلين. لكن الحوالي لم يسكت وواصل الجهر بكلمة “لا” لكل غزو غربي للمنطقة الإسلامية، محذرا من خطورة ذلك وآثاره المدمرة على منطقة الخليج ثم على الأمة كلها. وقد أرتفع صوته رافضا للغزو الكوني الذي قادته أمريكا ضد العراق عام 2003، وشاركت فيه أنظمة العار في السعودية ومصر وسوريا وغيرها. وقد وجه الشيخ الحوالي عدة رسائل في ذلك الوقت إلى شعوب الأمة تحدث فيها عن ضرورة الجهاد في مواجهة أمريكا ومن لف لفها، إذ أدرك مبكرا أن الهدف ليس العراق وحده، بل إن الهدف الرئيس هو مواصلة إضعاف الأمة وضرب كل قوة صاعدة فيها يمكن أن تشكل نموذجا لنهضتها، وهو ما يشكل حجر عثر ة أمام أهداف الغرب الصليبي والمشروع الصهيوني.
ثم قدّر الله تعالى أن يصاب الشيخ الحوالي بجلطة دماغية عام 2005 أقعدته وأبعدته عن المشهد، بينما عملت عصابة القصور الملكية على منعه من الخطابة وإعطاء الدروس، كما مُنع من الكتابة ونشر المقالات والرسائل، وأغلق المعهد العلمي الذي كان يجتمع فليه إلى تلاميذه. وظنت العصابة أن صفحة الحوالي قد طويت وأنه لن يصدر عنه صوت بعد ذلك، لتفاجأ بعد 18 سنة أنه كان طوال تلك المدة يؤلف كتابه “المسلمون والحضارة الغربية” في فراش مرضه. وقد نشر الكتاب بنسخة إلكترونية أصابت عصابة آل سعود بالجنون، فاعتقلته بعد يومين فقط من نشر الكتاب، رغم معاناته وظروفه الصحية.
أختم هذه العجالة ببعض ما جاء في كتاب الشيخ الحوالي فك الله أسره وإخوانه وفرّج كربتهم ورفع شأنهم، وهو مأخوذ من الملحق الذي خصصه الشيخ لآل سعود، بعد ملحق وجهه للعلماء دعاهم فيه إلى نصرة الحق والنطق به وإظهاره:
أكد الشيخ في رسالته إلى آل سعود بأنه ليس معارضا سياسيا، وأنه لا يُريد المُلك، وإنما رغبته نصرة الإسلام والنُصح لشعبه.
حثّ الحوالي آل سعود على إقامة العدل، منبّها إلى أن التدين الشعائري للحكام لا يكفي وحده، وأنه “لا بد من تطبيق ما ورد بشأن الإمامة الشرعية من نصوص على كل حاكم. وكون الإمام يصلي أو يصوم أو يحج، فهذا شأنه وبينه وبين ربه ولن أتعرض له، وإنما يهمُّ الناس أمران هما العدل والأمن”.
أكد الشيخ أن استحقاق آل سعود لشَرعيتهم الدينية قائم على تحكيم الإسلام، وقال: “والناس إنما يصبرون ويستعذبون كل بلاء لأجل الدين والعقيدة فقط، فإن تركوا الحكم بالإسلام انفضت عنهم الشعوب ولو بعد حين. واعلموا أن للصبر حدودا وأن الصابر مهيأ للانفجار، فكم من صابر ساخط”.
أشار الشيخ إلى أن علاقة آل سعود بالعلماء قائمة على المنفعة، لا طلبا لاتّباع الشرع المحض، إذ لا يأخذ الأمراء إلا ما وافق هواهم، وقال: “لما أردتم عزل الملك سعود استعنتم بالعلماء، ولما جاءت القوات الأميركية استعنتم بالعلماء، ولما أردتم سجن من يُخالفكم استعنتم بالعلماء. بيد أنكم لا تسمعون للعلماء دوما، فالعلماء جميعا يفتون -مثلا- بأن الربا حرام!”.
“إنني أتمسك بعداوة أميركا وإسرائيل ما حييت، وأُشهد الله على بُغض كل من كفر برسول الله وحادَّ الله ورسوله، وإنما أنصحكم يا آل سعود قياما بالواجب وإبراءً للذمة”.
تنبّه الشيخ الحوالي إلى موقف المملكة بالمضطرب فيما يخص ثورات الربيع العربي في اليمن ومصر وسوريا وليبيا، ووجه الكلام لآل سعود قائلًا: “المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فكيف تُلدغون أنتم مرات؟ وكيف تستبدلون المخلوع في اليمن بابنه الذي جعله أبوه رئيسا للحرس الجمهوري؟ أنصحكم لا تتورطوا في اليمن ثانية، فمن يحكم اليمن إنما هو كمن يرقص على رؤوس الثعابين!”.
وبالنسبة لمصر والموقف من السيسي وصف الحوالي تصرفات المملكة بأنها مخالفة لشرع الله، إذ إن السيسي لا يخطو خطوة إلا لمراعاة مصالح واشنطن وتل أبيب. وتساءل: “هل من شرع الله إعطاء السيسي مليارات كثيرة من الرُز ليحارب الدين، ويساعد إيران وبشار وحفتر، ويستعين على إحكام حصار غزة؟”.
اعتبر الحوالي أن أمريكا هي مصدر الإرهاب الأول وقال: أنصح آل سعود ألا يدعموا الإرهاب، لا أعني بالصورة المباشرة، ولكن بدعم “ترامب” وإدارته، ودعم من يمارسون الإرهاب مع شعوبنا ويستعينون بطائرات اليهود لضربنا، أو يغلقون قطاع غزة، ويتهمون المظلومين في فلسطين بالإرهاب. فأكبر الإرهابيين في التاريخ العالمي هي أمريكا، التي قامت على إبادة الهنود الحمر، ورفضت التوقيع على اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية محكمة الجنايات، واتفاقيات البيئة، والتي لما هددها صدام حسين بقطع النفط عنها، رد معالي وزير النفط السعودي حينها بأن السعودية سوف تعوض أي نقص في البترول، وتدفقت عليها المليارات، وقد ظهر موقف “ترمب” حين اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ووضع صفقة القرن. فمن الذي يدعم الإرهاب ويؤجج ناره الآن؟”. (يتبع).