كورونا والتحول إلى التمويل الإسلامي
د. أنس سليمان أحمد
يعيش العالم أزمة كورونا التي انطلقت شرارتها في القطاع الصحي ثم امتد لهيبها إلى الاقتصاد العالمي، وقد جاءت تلك الأزمة على خلاف الأزمات السابقة، لا سيما أزمة الكساد العظيم 1929م والأزمة المالية العالمية 2008م، وأزمة الديون الأوروبية والتي كان منطلقها اقتصاديا بحتا.
إن انتشار فيروس كورونا أحدث زلزالاً اقتصاديا عنيفا لكل دول العالم، ترتبت عليه خسائر مالية ضخمة، وعمليات إغلاق وتقييد حركة غير مسبوقة، حيث تشير الوضاع الاقتصادية العالمية وفي داخلنا الفلسطيني إلى انكماش اقتصادي، مما أدى إلى خفض الإنتاج، وواضح ذلك وبيّن في بعض البلدان كما في إسرائيل انكمش الاقتصاد إلى 7 % وأمريكا إلى 30% وأوروبا إلى 12%، وقد كلّفت هذه الجائحة الاقتصاد العالمي نحو 4 تريليون دولار، وهو رقم مرشح للارتفاع.
والناظر المتفحص يجد أن الجهود العالمية لمعالجة الآثار الاقتصادية لأزمة كورونا، يجد أن المؤسسات المالية الدولية والإقليمية والهيئات والمنظمات تعمل على إجراءات عاجلة للتخفيف من حدة هذه الآثار.
إن ما نعيشه اليوم من آثار هذه الأزمة وما نتج عنها من دخول العالم في نفق الكساد، يعود بنا بالذاكرة إلى قدرة النظام الاقتصادي الإسلامي على إنقاذ البشرية والرحمة بالعالمين، فهذه الأزمة التي تمس الجميع، فإننا بحاجة إلى تكاتف الجهود الدولية والخيرية والشعبية لعلاج هذه الأزمة الوقتية، والخروج منها كما خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أزمة الرمادة.
إننا بحاجة في ظل هذه الأزمة إلى تحقيق السلامة الاجتماعية من خلال الالتزام بالحجر الصحي وترشيد الاستهلاك وعدم التكالب على السلع والخدمات، والتكافل المجتمعي ليحمل القادر المحتاج، وتحمل الدولة الجميع.
إن العالم في مرحلة ما بعد أزمة كورونا، سيكون أكثر إدراكاً لأهمية الاقتصاد الإسلامي القائم على عدة مبادئ، أبرزها أن أولوية الاستثمار، يجب أن تكون من نصيب السلع الأساسية والقطاعات الحقيقية، التي تستجيب لحاجات الناس اليومية، أي القطاعات المعيشية، بما فيها الأغذية والمشروبات والملابس، صاحبة النصيب الأكبر من النمو، لأنها تتسم بطلب يومي مستمر لا ينقطع، ولا يتأثر بمخاطر التقلبات الاقتصادية.
والاستثمار في هذه القطاعات الحقيقية لا يمنح المستثمر الأرباح واستدامة النمو فقط، بل يوفر له الحماية من أي انتكاسات قد يتعرض لها الاقتصاد العالمي. كما أن الاقتصاد الإسلامي في جوهره، اقتصادي أخلاقي، يدعم التنمية الشاملة المستدامة.
كما يدعم الغايات النبيلة للتنمية الشاملة وطويلة الأمد، والتي تتماشى مع مبادئ وأخلاقيات الاقتصاد الإسلامي، الذي يحقق النمو المستدام، وذلك باعتبار الاقتصاد الإسلامي منظومة تتناغم فيها الأخلاق مع الإبداع في العمل، والالتزام العالي بغايات التنمية الحقيقية، لتعطي نتائجها بحجم آمال وتطلعات كافة شعوب الأرض، مهما اختلفت الساحات أو العوامل والظروف.
إن التمويل الإسلامي يعد أحد اليوم أحد الخيارات المهمة في ظل النمو الذي يشهده بصورة مستمرة، حيث إنه بعد مجموعة أزمات مر بها العالم لم يزل هذا القطاع يحقق نموا جيدا كل عام، وفي ظل الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008، كان التمويل الإسلامي أحد نجوم تلك المرحلة في ظل أزمة عالمية كان سببها الرهن العقاري الذي جعل للتمويل الإسلامي بالأدوات المتاحة فيه أهمية كبيرة، خصوصا أن الأزمة ارتبطت بالسندات، وهي ديون لا ارتباط لها بأصول، ما جعل العالم يهتم بصورة كبيرة بالنموذج الذي يقدمه التمويل الإسلامي ويعتمد على الأصول، خصوصا الصكوك الإسلامية التي برزت في تلك المرحلة واستفادت كثيرا من الإقبال عليها من قبل المستثمرين، وبعد ذلك شجع المؤسسات المالية والمستفيدين بدعم الباحثين على تطوير نماذج متنوعة من هذه الأداة لتوفر خيارات متنوعة تناسب رغبة المستفيدين، ومن هنا نما حجم الأصول المتوافقة مع الشريعة.
إن حجم الاقتصاد الإسلامي عالمياً، والذي وصلت قيمة الأصول المالية فيه إلى 3 تريليون دولار، لهو ضمانة لاستئناف النمو المستدام في كافة الظروف، واللافت هنا، أنه من بين أبرز الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية عام 2008، أن الشركات التي كانت تتبع آليات التمويل الإسلامي، لم تتأثر مثل غيرها من الشركات والبنوك التي لا تتعامل مع الآليات ذاتها، كما أن هذه الأزمة المالية العالمية، جعلت المستثمرين يضعون التمويل الإسلامي الإنساني الآمن نصب أعينهم، وهو ما زاد الطلب على منتجاته بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية.
ورغم إيماني العميق بالنظام الاقتصادي الإسلامي وأدواته التي يمكنها أن تواجه الأزمة الحالية، إلا أن مشكلتين قد تعترضان طريقه للإحلال محل الرأسمالية، أولاهما عدم القبول الدولي به لأسباب أيديولوجية معروفة.
بالإضافة إلى المواجهة الشرسة التي سيواجهها من قبل المؤسسات الربوية العالمية.
إن التجربة الاقتصادية الإسلامية في مجتمعنا العربي في الداخل الفلسطيني أثبتت نجاعتها ، خاصة في ظل الأزمة التي نعيش، فقد بدأت الصناديق الربوية تفقد وتخسر أصولها المالية، فالخسائر كبيرة جداً ، بالمقابل نجد أن تجربة المسار الشرعي للصناديق التقاعدية والاستكمالية والاستثمارية ، وصندوق الإدخار لكل ولد ، بدأت تنمو وبنمو واضح ، هذا المشوار بدأ قبل ثلاث سنوات بواقع 6 مليون شيكل، وبعشرات الموظفين والمعلمين والعمال، ليصل اليوم إلى آلاف من الموظفين والعمال والمعلمين، ليصل حجم الصندوق الإسلامي اليوم بفضل أرباحها إلى ما يقارب 140 مليون شيكل ، هذا إن دلّ فإنما يدل على ثقة الناس في هذه الصناديق من منظور قيمي أخلاقي ديني ومنظور اقتصادي ربحي .