المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية ومسائل الفرص التاريخية (11)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
تتسارع الأحداث الجارية في منطقتنا، بعد إعلان التطبيع الاماراتي مع المؤسسة الإسرائيلية، برعاية أمريكية، وباتت واشنطن العرّاب الذي يعمل بكل ما أوتي من قوة وإمكانيات لتحقيق تطبيع في المنطقة العربية والاسلامية مع هذه المؤسسة، على أساس من الندّية، ضاربة بعرض الحائط القضية الفلسطينية تأسيا بمشاريع تصفوية حدثت في العشريات الثلاثة الأخيرة، كما حصل في الشيشان وأفخازيا، ويحصل هذه اللحظات في كشمير إذ القوة والإعلام والمال سبب مباشر في شطب هذه القضايا العادلة- ولو مرحليا.
بات من نافلة القول الإشارة إلى أن الحرب الارتدادية التي شنّتها القوى العربية الرجعية على منجزات الربيع العربي، خاصة في مصر وسوريا، وما جرى من قتل لرئيس منتخب، وذبح لملايين السنّة في العراق واليمن وسوريا وليبيا واليمن، وشيطنة وملاحقة للتيار الإخواني باعتباره التيار الأكثر نضجا في عالمنا العربي والإسلامي، وبعد وصولهم إلى السلطة في مصر واحتمالات وصولهم الى السلطة في سوريا، مارست الامارات والسعودية دور العراب في محاربة التيار الاسلامي وخلقت أكبر فتنة في منطقتنا منذ أن سقطت آخر قلاع المسلمين عام 1917.
وُلِدت المؤسسة الإسرائيلية من رحم وأتون الشقاق الصليبي-الصليبي في أوروبا وبسبب تقاطعات مصالح أورو-أمريكية، اجتمع فيها الصليب والاقتصاد، واجتمع فيها المال والعقيدة، عقيدة العودة والالفية الثانية التي ينتظر ملايين الانجيليين الامريكان هذه اللحظة، ومن أجلها يدعمون إسرائيل بالمال والعتاد والعزيز والنفيس، وهي تنطلق من قيم تمَّ زرعها في التربة الامريكية منذ لحظات قيامها الاولى على يد الحركتين الماسونية وبناي بريث، واللتان لا تزالان تعملان بجد واجتهاد في نسيج المجتمع الأمريكي، حيث أحالتا الحفاظ على الدولة “اليهودية” إلى طقس تعبدي لدى اتباعهما وهم بالملايين، وفي هذا السياق يشير صاحب كتاب “خفايا وأسرار: منظمة بناي بريث”، إيمونايل براتييه إلى أن هاتين المنظمتين يلعبان دورا حاسما في إيقاعات السياسة الأمريكية المتعلقة بالعلاقات مع الآخر من غير اليهود، ويضرب مثالا على ذلك، الرابطة المضادة للتشهير، ويعتبرها الذراع المسلح في بناي بريث (ص282-283)، والتي نجحت في التغلغل لتصل الى مفاصل الحياة السياسية الامريكية.
لا يمكننا فهم التطبيع بين الامارات والمؤسسة الاسرائيلية بمعزل عن العلاقات التي تم نسجها بين اقطاب يهود امريكيين وشخصيات اماراتية نافذة في الولايات المتحدة، بما في ذلك السلك الدبلوماسي والسلك الأكاديمي والاقتصادي، وهذه العلاقات تبنى بتؤدة وروية ونفس طويل بشكل فردي لتنتهي آثارها الى ما نعيشه هذه الأيام، وفي هذا السياق تكبر كرة الثلج تبعا لتعقيدات المصالح بين الاطراف الثلاثة الامارات والولايات المتحدة والمؤسسة الإسرائيلية.
منذ قانون يهودية الدولة الذي تزامن مع حكومة جمهورية موالية بالمطلق لهذه المؤسسة، استحالت الى دولة اليهود او الدولة اليهودية، وفي ظل تقاطع المصالح “ظاهريا” بين طمع ترامب بالاستمرار في دورة ثانية، وبين ملايين العقائديين الموالين للدولة “اليهودية” تتم عمليات ضغط هائلة على دول المحور السني الموالية لواشنطن، والتي صعقها الربيع العربي، وأجهزت عليه في أعنف عملية وحشية عرفها تاريخ العرب الحديث، بدعم من الولايات المتحدة والدولة اليهودية التي تحسبت من أن يتسلم الاخوان المسلمين الحكم ديموقراطيا في بلاد الربيع، فسارعت عبر واشنطن لتفعيل قوتها الخفية والمعلنة في الولايات المتحدة والعاصمة، والدول العربية التي راكمت علاقات استخباراتية معها منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، إن لم يكن من قبل، لتكون نتائج هذه العلاقات إيجابية بالمطلق لصالح الدولة اليهودية.
يلاحظ أن القدس دائما حاضرة في الذهنية الإسرائيلية، في أثناء بنائها للعلاقات مع الآخر، سواء كان هذا الآخر في حالتنا، عربي أو مسلم، وهي تستثمر دائما علاقاتها الجانبية لتعزيز مكانتها كدولة في بحر معاد “الشرق الاوسط” لها حق الحياة، وأن القدس عاصمتها بكونها الشيفرة الروحية ليهود العالم وللمؤسسة الإسرائيلية، وبالتالي يمكن تفهم احتياجاتها الروحية والاخلاقية والمادية والتاريخية لهذه المدينة خاصة، وأن التعامل يتم مع قيادات عربية واسلامية علمانية تحكم تلكم البلدان، وعلمانية هذه الانظمة مرتبطة تربويا وثقافيا بالنمط الامريكي وليبراليته المتوحشة والفاسدة.
في هذا السياق تتحول مدينة القدس عند سفير الامارات في واشنطن(مثلا) الى مجرد مدينة تفوقها أهمية مدن دبي وأبو ظبي، ومسألة التعامل معها ببرجماتية وفقا للنمط الامريكي مسألة مفهومة ضمنا، بغض النظر عمّا يقوله صاحب القضية، إذ هو في هذه السياقات غير موجود أصلا بحكم أن الانسان العربي في عقلية هؤلاء الحكام والساسة والدبلوماسيين هم مجرد بشر “رعايا” إن صح التعبير لا يحق لهم التفكير وإبداء الرأي.
في سياق الهرولة الحاصل، من المهم أن نتتبع الخطوات التاريخية التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة، لحظة الانهيار العربي والانهيار الإسلامي، إذ بعد غياب متعمد لمنظمة التعاون الاسلامية ولجامعة الدولة العربية عن هموم العرب والمسلمين، وتفكك عرى هذه الدول والشعوب، صار من السهولة بمكان تحقيق الاختراق اليهودي لتمكين دولتهم في المنطقة من جهة، ولتحقيق مزيد من السيطرة الفعلية الذي تراكمه منذ قيامها عام 1948 من جهة أخرى، ففي البدء كانت العلاقات العربية مع الحركة الصهيونية، ومن ثم العلاقات الرسمية مع دول إسلامية في آسيا وأفريقيا كإيران وتركيا، وفي سبعينات القرن الماضي كانت هرولة السادات الى البلاد ليلقي كلمته في الكنيست وليعقد أول اتفاق عربي-اسرائيلي أيضا، تحت إشراف ورعاية أمريكية، وهكذا كانت أوسلو و “وادي عربة”، وقد رافق هذه التحولات البطيئة تأسيس السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية اوسلو التي عززت التعاون الامني بعد الانتفاضة الثانية، لنصل إلى ما نحن عليه، وهو ما يحتاج لمزيد تفصيل، كيف استثمرت المؤسسة الاحداث لصالح تعزيزها سواء كان ذلك سياسيا أو اقتصاديا.