لو عرَفتَ قدرها ما أهَنتَها
سوسن محمد مصاروة
نفسي التي تنازعني من أجل الدنيا يجب أن أخاصمها من أجل الله. هي تريدني إلى الشهوة والفاحشة فعليَّ أن أذكّرها بيوسف عليه السلام، هي تريدني غنيًا محبًا بل عابدًا للمال فعليَّ أن أذكّرها بقارون، هي تريدني أن أسمع الموسيقى والأغاني فعليّ أن أذكّرها بالقرآن، هي تريدني أن أنظر إلى الفتيات الحاسرات الكاشفات، هي تريدني أن أنظر إلى الشباب اليافع الفتيّ، فعليّ أن أذكّرها بالحلال وما أعدّه الله لمّن غضّ بصره وحفظ فرجه، هي تقربني إلى النار فعليّ أن أذكّرها بنعيم الجنة.
هي نفسي ونفسك التي بين جنبيك “خُلقت أمارة بالسوء ميالة للشر، وقد أُمرنا بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها وأن نَقودها بسلاسل القهر إلى عبادة الله فإن أهملناها جمحَت وشردَت ولم نظفر بها بعد ذلك، وإن ألزمناها بالتوبيخ صارت مطمئنة…”.
قال يحيى بن معاذ: (من سعادة المرء أن يكون خصمه فَهِمًا، وخصمي لا فَهم له. قيل له: فمن خصمك؟ قال: خصمي نفسي، لا فهم لها، تبيع الجنة بما فيها من النعيم المقيم والخلود فيها، بشهوة ساعة في دار الدنيا).
وقد لفت ابن الجوزي الأنظار عندما عرّف قدر النفس عند الله، فقال: (ويحك لو عرفتَ قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، إنما أَبْـعَـدْنَا إبليسَ لأنه لم يسجد لك، فيا للعجب كيف صالحته وهجرتنا).
وما أجملَ ما قاله الإمام الغزالي رحمه الله في قول الله تعالى “وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدون”: (إنا خلقنا القلب، وأعطيناه الملك والعسكر، وجعلنا النفس مركـبة، حتى يسافر عليه من عالَم التراب إلى أعلى عليين .فإذا أراد أن يؤدي حق هذه النعمة، جلس مثل السلطان في صدر مملكته، وجعل الحَضرة الإلهية قِبلتهُ ومقصده، وجعل الآخرة وطنهُ وقرارهُ، والنّفس مركبهُ، والدنيا منزلهُ، واليدين والقدمين خدّامه، والعقل وزيره، والشهوة عامله، والغضب شحنته، والحواس جواسيسه، وكل واحد موكل بعالَم من العوالم يجمع له أحوال العوالم، وقوة الخيال في مقدم الدماغ كالنقيب يجمع عنده أخبار الجواسيس، وقوة الحفظ في وسط الدماغ مثل صاحب الخريطة يجمع الرقاع من يد النقيب ويحتفظ بها إلى أن يعرضها على العقل، فإذا بلغت هذه الأخبار إلى الوزير يرى أحوال المملكة على مقتضاها. فإذا رأيت واحدًا منهم قد عصيَ عليك، مثل الشهوة والغضب، فعليك بالمجاهدة، ولا تقصد قتلهما، لأن المملكة لا تستقر إلا بهما. فإذا فعلت ذلك كنت سعيدًا، وأدَّيت حق النعمة، ووجبت لك الخلعة في وقتها، وإلا كنت شقيًا ووجب عليك النكال والعقوبة).
وهذا عمر بن الخطاب يعاتب نفسه فيقول: “عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك”.
فمتى نحاسب أنفسنا ونزجرها ونوبّخها لتنقاد لنا كيفما نريد! متى نتعالى على هذه النفس ونزجرها لتسير في ركب الصالحين! ونحن نرى جال مجتمعنا من كثرة الفساد والأهواء وتحكُّم الباطل وانتشار الرذائل في كل بقاع الأرض.
لنحفظ علينا أنفسنا، ومن أجل التغيير نحن بحاجة للنيّة الصادقة، والإرادة القوية والعزيمة المتينة، فإذا كان ذلك:
• ابتعِد عن أماكن المعصية، فإن كانت معصيتك مشاهدة الأغاني فاهجر التلفاز (أو مَن ينوب عنه).
• عوِّد نفسك الصمت، فكثرة الكلام توقع في المعاصي.
• عوّد نفسك الصيام، فإن الجوع يُذّل، وإن النفس إذا آلمها الجوع خشعت واستمعت واستسلمت للمعاتبة فتـُقبل على الطاعة، فإذا لم تقبل فذكِّرها بعذاب الله وسوء المصير حتى تلين لك، وعندها تعطيك وعدًا بترك المعاصي، ولكن متى؟
• لا تقبل من نفسك التسويف والوعد بالعمل والطاعة، بل احمل عليها بشدّة، ازجرها وذكرها بعدم ضمان الأجل. فإن استجابت وأطاعتك فابحث لها عن صحبة راشدة بدل الصحبة المضلّة، وعلِّمها الذكر بدل السهو والغفلة، وألزمها التثبت والتفكر بدل الطيش والعجلة، وأذقها مناجاة الله وحلاوة تلاوة القرآن والقراءة ومطالعة العلم بدل الخوض في الباطل ومجالسة المفسدين، فإذا استقامت على الطاعة فانتبه ألا ينمو فيها العُجب بطاعتها وتركها للمعصية، ازجُرها وذكِّرها وخوِّفها بأن العمل يُحبط ولا يُقبل. وإن لم تُجب النفس بأعمالها فربما وقعت في معصية وهي لا تدري، إنها معصية الكبر والتعالي على الناس لما ترى من معاصيهم واستقامتها، فتحتقر العاصين، عندها ذكِّر هذه النفس بما كان منها وما كانت عليه، وأسمعها قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، وقول القائل: “رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكسارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا”، وخوِّفها من سوء الخاتمة، فإن الوصول إلى القمة سهل ولكن الحفاظ عليها هو الصعب.
وتذكر أن نفسك التي بين جنبيك تنازعك دائمًا، جاء في الأثر (المؤمن بين خمس شدائد: مسلم يحقده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله وشيطان يضله، ونفس تنازعه).
والطريق أخي أختي واضح، حيث النجاة والفلاح، إنه طريق سهل ميسور مفتوح أمامك في كل لحظة، ما عليك إلا أن تطرقه، إنه باب التوبة، وستجد الجواب: “وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتَدى”.