كونوا من الصنف الأول يا جيل التغيير
صحيفة المدينة
قال كميل بن زياد النخعي: (خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الجبَّان، فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم قال: يا كميل بن زياد، القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا منه إلى ركن وثيق). حتى هذه الفقرة التي هي جزء من وصية بليغة طويلة للأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حول العلم ومنزلته عند الناس، ومنزلة الناس عنده يؤكد الأمام علي رضي الله عنه أن الناس في ميزان العلم ثلاثة أصناف، فهناك العالم الرباني وهو الصنف الأول، وهناك المتعلم الطامع بالنجاة وهو الصنف الثاني، وهناك الهمج الرعاع وهم الصنف الثالث، وهؤلاء الصنف الثالث ما حملوا العلم في قلوبهم لأن نفوسهم أوحت لهم أن العلم عبء ثقيل، وما طلبوا العلم نجاة بأنفسهم، لأنهم ظنوا بأنفسهم رغم جهلهم أنهم يحسنون صنعا، وأن شقاوة الجهل سعادة لهم، فكان حالهم على حد وصف الأمام علي رضي الله عنه (همج رعاع)، فلا هم طلبوا العلم نجاة لأنفسهم ولا لغيرهم، فعاشوا وماتوا وهم (أتباع كل ناعق) كما وصفهم الأمام علي رضي الله عنه، فهم أتباع لا رأي لهم، والحسن عندهم أو القبيح هو الحسن أو القبيح عند الناعق الذي يسيرون خلفه مضبوعين كأنهم أمة من الرجال الآليين الذين يعيشون وفق البرنامج المعد لهم سلفا، دون أن يكون لهم أي رأي في هذا البرنامج، فهم صُنعوا ليطيعوا، وهكذا حال الصنف الثالث في وصية الأمام علي رضي الله عنه، فهم وفق هذه الوصية: (أتباع كل ناعق) أي رجال آليون لا يملكون إرادة مستقلة بل هم منقادون للبرنامج المعد لهم سلفا، وهم وفق هذه الوصية: (يميلون مع كل ريح)، لأنه لا علم لهم أصلا حتى يحدد لهم وجهة الحق التي يجب عليهم أن يولوا وجوههم شطرها، ولأنهم كذلك فهم ليسوا ضائعين فقط، بل هم الضياع بحق ذاته.
فيا جيل التغيير المحترم حاسب نفسك واعرف من أنت من بين هذه الأصناف الثلاث، فهنيئا لك إن كنت من الصنف الأول، وتدارك نفسك إن كنت من الصنف الثاني، وتعازينا إن كنت من الصنف الثالث. ولأن العلم هذا قدره في حياة الناس، فإن الأمام علي رضي الله عنه يواصل بسط وصيته البليغة الطويلة ويقول: (العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الأنفاق والمال تنقصه النفقة، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، ومحبة العالم دِين يُدان الله به، يكسبه الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته. مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أشخاصهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة) فيا لهذه الفقرة من وصية الأمام علي رضي الله عنه ما أبلغها وما أبدعها وما أروعها، وما لنا إلا أن نقول للأمام علي رضي الله عنه الذي أحببناه وإن لم نره، ونسأل الله تعالى أن يكرمنا الله برؤيته في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا إلا أن نقول له: (صدقت وبررت وبالحق نطقت)، ثم نقول لجيل التغيير ناصحين إعرفوا من أنتم؟! واعرفوا ماذا تريدون لأنفسكم؟! هل تريدون لأنفسكم أن تكونوا محروسين بالعلم أو حُرَّاسا للمال؟! هل تريدون أن تكونوا حاكمين لأن العلم ملأ قلوبكم أو محكومين عليهم لأن المال ملأ جيوبكم؟! هل تريدون أن تعيشوا بعد موتكم بعلمكم أو أن تموتوا وأنتم احياء وإن راود المال خواطركم؟! هل تريدون أن تكونوا موجودين رغم فقدانكم أو مفقودين رغم وجودكم؟! نرجو أن لا تهربوا من هذه الأسئلة، ونرجو أن تواجهوها، كما نرجو أن تختاروا لها الجواب الذي فيه رفعة دينكم ودنياكم، ثم فيه رفعتكم ورفعتنا، ونرجو أن تحذروا مما حذر الامام علي رضي الله عنه في هذه الوصية من طالب علم أصبح (لقنا غير مأمون عليه، يستعمل الدين للدنيا، … لا بصيرة له في أحنائه، يتقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك، أو منهوما بالذات، سريع الإنقياد للشهوات، أو آخر شأنه جمع المال والإدخار، ليسا من رعاة الدين، أقرب شبها بهما الأنعام السائمة) فالأمر جدُّ ليس بالهزل يا جيل التغيير، فكن حاملا للعلم، واحذر أن يكون العلم هو من يحملك، وكن حاملا لمشروع التغيير، والويل لك ولنا إن كان هذا المشروع هو من يحملك، وكن حاملا لهمومنا وطموحاتنا، ولا نرضى لك أن تكون همومنا وطموحاتنا هي من تحملك، ثم كن متفائلا رغم كل جرح غائر، وخطب جلل، وحصار خبيث، ومصاب موجع، وكيد سام، ومكر شائك، واعلم كما قال الإمام علي رضي الله عنه في ختام هذه الوصية: (ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته ومن أولئك؟ وأين أولئك؟ أولئك الأقلون عددا، الأكثرون عند الله قدرا، تجول الحكمة في قلوبهم حتى يزرعوها في قلوب أشباههم، ويودعوها في صدور نظرائهم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استخشنه المترفون، واستأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأجساد أرْواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، وأمناؤه على عباده ودعاته إلى دينه، آه شوقاً إلى رؤيتهم).