أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

سلام عليك يا رفيقي الشيخ

سليمان أبو إرشيد

التقينا قبل أقل من أربعة عقود في جامعة بئر السبع، جمعنا واقع الحال الذي أخرج أهلنا من النكبة سواسية كأسنان المشط، وطوانا المكان الصحراوي، الذي يمتد منه الجنوب جنوبا نحو نهاية فلسطين حتى ملتقى القبلتين. ربما هي ظروف المكان، الذي تغسله شمس الصحراء ولا تخنقك فيه الرطوبة، أو هو الزمان، الذي شهد طلوع فجر الثورة من تحت ركام النكبة ونهوض مارد يوم الأرض من بين أغلال الحكم العسكري، ولكنه أيضا، كد فلاح وعرق عامل ودعاء والدة بعد صلاة الفجر وخمائر وأدعية تشكلت بها ومنها ذواتنا ووجداننا الوطني.

عبد الحكيم مفيد، بصفاء فكره ونقاء سريرته، هو الابن الشرعي لتلك البيئة الفلسطينية الأصيلة، التي انحدر منها الكبار والعظام من قادة ومبدعي ورموز هذا الشعب، الذين أشغلتهم القضية الكبرى عن القضايا الصغيرة، وغلب لديهم حب فلسطين على خلافات الفصائل المتحاربة باسمها. وهو بهذا المعنى شكل حالة غير مألوفة في فضائنا السياسي، الذي تطغى عليه الفردانية المقيتة والفئوية البغيضة والاستقطابات الداخلية والخارجية القاتلة.

في النقب، الذي أحببناه جميعا وتماهينا مع نضالات أهله في معركة الصمود والبقاء، كان الدرس الأول في السياسة. فكنا نحن الطلاب والمعلمين في ذات الوقت. وكنا، من حيث لا ندري، نضع مع آخرين، انتشروا في الجامعات الإسرائيلية وبلدات الداخل الفلسطيني، اللبنات الأولى في مشروع الحركة الوطنية الذي شكلت أبناء البلد حجره الأساس.

وفي جريدتي “الراية” و”الميدان” اللتين جمعتنا صفحاتهما كان درس الصحافة الأول. وكنا نحن الطلاب والمعلمين، أيضا، علمنا وتعلمنا، بتفاوت تجاربنا الشخصية المتواضعة من بعضنا البعض، من مجموعة رفاق وزملاء كان بينهم رفيقنا أحمد ابو حسين رحمه الله، محمد كيال، علي سمنية، عوض عبد الفتاح، رجا إغبارية وعمر سعيد وغيرهم من الزملاء والرفاق من كتاب وصحفيين وسياسيين أمد الله في أعمارهم.

وعلى الجبهتين السياسية والإعلامية كان لعبد الحكيم، رحمه الله، حضور مميز ودور بارز. وفي هذا السياق يمكن اعتباره بجدارة من الرعيل المؤسس للحركة الوطنية/أبناء البلد ومن الجيل المؤسس لمدرسة الصحافة الفلسطينية البديلة، التي نقشت على رايتها شعار “كل الحقيقة للجماهير”، وكان سقفها الوطن وليس الحزب. وهي شعبة تتفرع فكريا وإعلاميا عن المدرسة الكبيرة التي أسس لها الأديب والصحافي الشهيد غسان كنفاني، وآمنت أن القلم سلاح من الجدير إشهاره في وجه الظلم والظالمين ودفاعا عن الحق والحرية، وفي وجه المشوهين والمحرفين والمتخاذلين. وظل قلم عبد الحكيم مفيد حتى آخر حياته سيفا مشرعا في الذود عن المشروع الذي آمن به بين كل مرحلة وأخرى من مراحل حياته.

لقد صدق الشيخ كمال خطيب، الذي التفت إلى سلاسة انتقاله من حركة أبناء البلد إلى الحركة الإسلامية. وهو انتقال بدا حتى بالنسبة لنا، نحن رفاقه القدامى، وكأنه تطورا طبيعيا وليس “ردة” أو “نكوص” أو غيرها من المصطلحات التي عادة ما يتم إطلاقها على من ينتقل من حزب إلى آخر أو من حركة إلى أخرى.

ولعلي أستذكر اليوم أنه عندما زارني في بيتنا، بعد أن تزوج، سألته والدتي فيما إذا كان متزوجا، ففرحت عندما رد بالإيجاب وفرحت أكثر عندما طلب منها بعد برهة من الوقت بساطا للصلاة. وكانت رحمها الله تتمنى لي في حينها تلك الحسنتين. ربما لهذا السبب لم نلحظ النقلة الكبيرة، وربما أو هو أكيد، أن عبد الحكيم أشعرنا أنه ما زال بيننا، فلم تتزعزع علاقاته وصداقاته الماضية ولم يتنكر لتاريخه وانتمائه السابق، بل ظل يفاخر في كل محفل بهذا الانتماء وهذا التاريخ، وحافظ على علاقاته المرتبطة به أكثر من السابق، علما أنه نجح أيضا بتوظيف ذلك لصالح مشروعه الإسلامي ولصالح التوافق الوطني.

 

وقد شكل في هذا المضمار حالة فريدة في بيئتنا السياسية. امتاز بها وحيدا لأنه انطلق من أرضية وطنية أصيلة المنبت وحافظ على هذه الأصالة حيث كان. ولطالما شبهت انتقاله بانتقال المفكر الفلسطيني منير شفيق، وهو المسيحي الديانة، من الفكر الماركسي اللينيني إلى الفكر الإسلامي، لأني لم اشعر بأي تغير في فهم كلاهما للقضية الفلسطينية والقضايا القومية.

وقلما تجتمع سعة العقل والقلب بروح ودودة كالتي امتلكها صاحبنا عبد الحكيم. محبة وطيبة لطالما عبرت عن ذاتها حتى في أشد القضايا مبدئية وأكثر النقاشات حدة مع الاصدقاء والخصوم. كما برزت في المقالات الثلاثة التي كتبها مؤخرا والتي جاءت تباعا كردود على كل من جواد بولس وسعيد نفاع وغسان فوزي، فنراه يخاطب جواد بولس قائلا، “لا يصبح الناس وطنيين أكثر حين يتنازلون عن خصوصياتهم وهوياتهم الأخرى على العكس قد يخسرون كل شيء، يتفق الناس أكثر فقط حين يعون الاختلافات بينهم، لأنهم حينها فقط سيعرفون المشترك”.

وفي الرد على سعيد نفاع يستأذنه قائلا إنه “تتدحرج القضايا التي تعيشها المرحلة إلى بيوتنا بلا استئذان، في المكان الذي تعيش فيه لا نستطيع الهروب من استحقاقات تداهمنا على حين غرة و’الحرب التي لا تبحث عنها تبحث عنك”. أما في نقاشه مع غسان فوزي، فيستذكر العلاقة الشخصية الحميمة معه ومع عائلته ويذكر بمحبة والدته مع أمهات رفاق له في أبناء البلد استضافته بيوتهن الدافئة، ليس دون أن يضع النقاط على حروف الخلاف والاختلاف ويرسم الخطوط الحمر قبل أن يختم قائلا، “سنبقى مع التسامح والتعايش لكن بشرط واحد أن لا يطالبنا أحد بالتنازل عن عقيدتنا ونحن لن نطلب من أحد ذلك”.

عبد الحكيم مفيد شكل حالة فريدة جمعت بين الأصالة التي قد تخالها، إذا أردت، خارجة توا من القرية الفلسطينية السابقة على نكبة 48، في السياق الوطني، أو من العصر الراشدي في السياق الإسلامي، وبين الحداثة وحتى حداثة ما بعد الحداثة (إذا أردت) بفلسفتها ونظرياتها وصحافتها وموسيقاها وعطورها الحديثة. وهو لهذا السبب امتلك هامش مناورة واسع مكنه من مخاطبة الإسلاميين “المتزمتين” بلغتهم والعلمانيين “المتزمتين” بلغتهم، ونجح أن يشكل جسرا وقاسما مشتركا بينهما، دون أن يتخلى عن معتقده ومشروعه.

وهو بهذا النموذج يثبت أن الانفتاح على ثقافة الآخر ومعتقداته هو شرط ضروري، ليس فقط عندما يكون الآخر غريبا فقط، بل، وهو الأهم، عندما يكون هذا الآخر هم أبناء شعبك أيضا. وقد نجح بأن يجمع ما فرقه الآخرون ويحظى بإجماع منقطع النظير وأن يوطد مكانته كإعلامي وقائد سياسي متفق عليه.

لروحك الجميلة سلام يا صديقي الشيخّ ولك الرحمة يا استاذ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى